الفُلاّن في موكب الحضارة الإسلامية أخذا وعطاء/الاستاذ محمد سعيد باه مفكر سنغالي |
المنطلق، لنتحدث عما أخذه الفلان استفادة أو ما قدموه أريحية طيلة سياحتهم ضمن الشعوب التي التحقت بركب الإسلام في هذا الصقع البعيد عن مهبط الوحي، فلنؤكد بأنه "شعب معمر" عانق عددا متباينا من عبير الأمم والتقط كثيرا من ثمرات الحضارات، بمعنى آخر عاش فوق تلال عاليات أدهرا جعلته غير متوار عن الأنظار بخلاف اختلاقات الآخرين الذين يدعون اكتشاف من كان يخطو برشاقة تحت الشمس متعرضا. (1) والجملة الثانية أنه لما وفد الإسلام على هذه الديار كان الفلان على رأس المحتفلين بمقدمه ومن أطلق تلك الزغرودة الطويلة حبورا واحتفاء، وكأنه كان في حالة استشراف طلعته، وهذا الاستعداد هو الذي سيجلي ما كان ينطوي عليه من تهيئ روحي ونفسي جماعي للانخراط في موكب القادم من الشرق. عطفا عليه، سنحاول تجنب اجترار الصيغ المكرسة حين يتعلق الأمر بالحديث عن الفلان منشأ وموطنا لنعرض، بما هدينا إليه، بضع لوحات تحتشد لترسم مشهدا مختصرا لقوافل الفلان وهم يخطون خطواتهم الوئيدة الرتيبة ضمن موكب من استجابوا هنا لهتاف الحضارة الإسلامية وهم خليط من الأجناس خاضت تجربة مثيرة بقدر ثرائها في هذه الضفة من بحر الرمال المتحركة دوما.
لمحة عن الفلان بشرا وانتشارا: قال أحدهم راسما لوحة مكدسة عن بعض مضارب الفلان في غربي إفريقيا: "بلاد المياه الدافقة والأشجار المثمرة، بلاد الإيمان والحرية"! ولأننا لا نملك جديدا حاسما نضيفه أو مكتشفا ناقضا لما استقر من الاجتهادات ما كان منها شاردا أو طائشا، فلن نتوقف هنا عند الجدل المحتدم الذي يدور حول الجذور اللغوية والسلالة البشرية (أصولا وفروعا) التي انبثق منها هذا المكون الآدمي الذي شغل الدارسين مشرقا ومغربا منذ أن جذبت إليه أنظارهم بما تحمله من خصائص بنيوية أو يثيره من تساؤلات حادة انطلاقا من فرادة القسمات أو ما جبلوا عليه من ملامح يباينون بها من مروا به أو مر بهم من شعوب وقبائل. (2) أو ما ينعتهم به بعضهم بـ: "غاية الاهتمام بتاريخ هذا النوع الإنساني". (3) من اللافت أن "الفُلاّن"، (هي الصيغة المعربة التي آثرنا توظيفها هنا في هذه الورقة (4)، للإفلات من عقال كثرة الأسماء ووفرة النعوت، ما جعل صاحب الغرابة وغيره ينقلون بأن الأسماء التي أطلقت عليهم ناهزت المائة)، (5) يمثلون ظاهرة بشرية فريدة في خلتين: الأولى، تمايزهم عمن يساكنهم من شعوب وأقوام طيلة قرون خلت رغم ما تحتمه المجاورة من دواعي الانصهار وعوامل الذوبان بفعل المصاهرة والمزاوجة، وصل درجة الحد الأعلى، ربما هو الذي بلبل أطروحات من يحاول قراءتهم من منظور تقاسيمهم فقط بغية إرجائهم إلى حيز جغرافي أو استخراجهم من جين جماعي معروف (عرب، يهود، هنود..) لكن تلك المحاولات تنقلب عاجزة حين ترتطم بمعطيات في غاية الصلابة وبالتالي تبقى محصورة ضمن دائرة تخمينات غير مطمئنة. (6) الثانية، هذا الامتداد الأفقي الذي يتمتعون به حيث نجد شريط ديارهم يمتد من عرض الصحراء مخترقا السهل كله وملامسا شطآن بحر الظلمات ومتناثرا في حوض تشاد إلى شط النيل وقرب البحر الأحمر، في هذا الفضاء الممتد نلتقي بهم جماعات تقل أو تكثر نسبها ضمن التركيبات الفسيفسائية البشرية التي تقطن هذه الديار الفسيحة إلى درجة التكدس. ساعة نسير في هذا الخط المتعرج لحركة هذا الشعب المنتجع سنلتقي به في هجرات متعاكسة وحاشدة تكاد تتخذ، في الفترة التي أعقبت ظهور الإسلام على الأقل، من ضفاف الصحراء الكبرى وأحواض نهري السنغال والنيجر قاعدة له وهم ينطلقون منها أو يثوبون إليها وفق ما استجدت فيهم أو حولهم من الأوضاع مستفزة أو جالبة على شاكلة نزوحهم من وادي نهر السنغال إلى بلاد ماسِنَ مرة وإلى مرتفعات جَلُنغْ التي أطلقوا عليها اسم بلادهم "فوتَ"، ليتخذوا من بلاد ماسن منطلقا جديدا للهجرة نحو بلاد الهوسا وما وراءها. (7)
العناق الأول مع الإسلام: جادل كثير من الباحثين ليثبتوا بأن الفلان احتضنوا الإسلام في أول جولة له عبر الصحراء، ومع عدم قدرتنا على إعطاء تاريخ محدد، لغياب حدث ملفت يمثل منطلقا نثوب إليه على جاري ما ألف في رصد حركة الإسلام عبر المعمورة، نستطيع الجزم بأنه بعد وجود متناثر اقتحم الإسلام قلب أكبر تجمع بشري للفلانيين في حينه مع مقدم عبد الله ابن ياسين الذي عسكر في منطقة ما من مملكتهم "التكرور" وما تلا ذلك من أحداث جسام ستعلّم مسيرة الوجود الإسلامي والتي بلغت الذروة باعتناق ملك بلاد التكرور وار جابي بن رابيس انجاي الإسلام (ت: 1041م) وبالتالي تبنيه لأحكامه منهجا للحكم في أرجاء مملكته. بهذا الحدث ذي الصدى والصيت انتصب المعلم الذي كان المؤرخون يبحثون عنه لينطلقوا منه في تقييد أحداث الوجود الإسلامي داخل حوض نهر السنغال وبالتالي تلقف الفلان ومن سبقهم أو لحق بهم من الأقوام راية الوافد الجديد الذي أسرعوا إليه الخطى يستكنهون أخباره ويستجلون مكامن سر اندفاعه. من هنا بدأت اللحظة الفارقة في تاريخ المنطقة عندما بدأ يتقاطع مسير ومصير الفلان مع مسيري ومصيري قومين آخرين، وهما الماندينغ والسوننكى (8)، من خلال دور متكامل يقرب من درجة التآزر قبل الانتقال إلى مستوى الاستقلال في مجال العمل لجعل دائرة وجود الحضارة الإسلامية في اندياح مطرد بعد فترة قصيرة من الاقتباس الضافي أو التتلمذ اليقظ وهي الظاهرة الملفتة التي أحسن د. حسن أحمد محمود التعبير عنها "تشربوا الثقافة الإسلامية وتعمقوا في فهمها". (9)
الفلان، الثقافة الإسلامية اقتباسا، إشعاعا وتلقيحا: كان من الحتم أن يقودهم هذا التتلمذ اليقظ الذي مكنهم منه عقل لماح - ألف إدامة النظر فيما يحيط به من الطبيعة المائجة أو يقلقه من الواردات يثيرها ما تموج به الحياة حوله من ظواهر مبهمة كان يصر على الوصول إلى تفسيرات لها لأن مصدر قوته بدنيا وروحيا مرتبط بصورة وثيقة بالقطر والثمر والشجر والبقر - إلى فك رموز الثقافة الإسلامية وقراءة كل سطر في لوحاتها المزركشة. عن الحفاوة التي احتضن بها الفلان الثقافة الإسلامية بكل روافدها يقول أحد أكثر الباحثين تفاعلا الفلان مع هذه الثقافة وما تركته في بنيانهم وبيئتهم من انعكاسات أو رسمته من علامات: "إن تاريخ الثقافة الإسلامية أو المدارس الإسلامية في الواديين السنغالي والنيجيري هو تاريخ دخول هذا الدين تماما .... ويوجد العديد اليوم من الأسر الإسلامية العلمية بلا انقطاع في بلاد فوتا وما زالت تحتفظ بسلسلة أسماء أجدادهم المسلمين العلماء قد يصلون ما بين: 27- 28جدا " (10) تطورت هذه الثقافة على أيديهم فنضجت وتوسعت دائرة وجودها فما أن جاء القرن السادس عشر حتى كانت المناطق التي يقطنونها مصدر إشعاع لغيرها وإلى مسافات بعيدة، ولكن النقلة النوعية ستأتي على يد الإمام عبد القادر حَمَّدِ كَنْ الذي تجمع المصادر على أنه أنشأ أكثر من ثمانين مجلسا علميا على امتداد مضارب الفلان في ضفتي النهر، فكان من نتائج تلك النهضة الثقافية تسرب الثقافة الإسلامية إلى عمق المجتمع الفلاني وتلقيح الثقافة المحلية، فأصبحت الثقافة الإسلامية رافدا، بل مكونا من مكونات الثقافة الشعبية كما نلمس في الألعاب والأغاني والإنتاج والأساليب الأدبية وفي كل ميادين الحياة العامة. (11) هكذا برع الفلان في تمثل وهضم مقومات الثقافة الإسلامية واحتلوا معظم جوانب الساحة الفكرية وهم يحملون البضاعة الجديدة التي طفقوا يبشرون بها، ولاتساع رقعة النجاح الذي حققوه في سياحتهم الفكرية بحيث يصعب أن نستعرض ذلك، ولهذا سنكتفي بعرض بعض المعالم البارزة للفضاء الثقافي الذي أوجدوه متكئين على الإسلام وما كان يحمله من قيم وأنماط ثقافية تصلح للتمثل مع القدرة على استيعاب الثقافات المستقبلة له دون استلاب ولا إقصاء أو تحطيم تحت ثقلها الفكري والثقافي وهو من معالم التميز الفاصلة بين الإسلام وبين غيره من الأنظمة المغايرة التي وفدت إلى المنطقة.
نسيج اجتماعي متفرد: أخذ الفلان من الإسلام مبدأ صلبا يتمثل في أن الحياة السعيدة للإنسان لا ينمكن بناؤها إلا على أساس كرامة الفرد المنطوي في حضن مجتمع صالح ينمو فيه بسوية ويرعاه بحنان حتى إذا ترعرع وبلغ أشده رد الجميل بأبهى الصور؛ وبهذا التصور والتمثل لفلسفة المنهج الرباني في بناء الحياة الاجتماعية استوعبوا حقيقة الأخوة الإسلامية الضافية ووجدوا أنها ليست بعيدة عما كانوا عليه من تصورات في هذا الباب كما لاحظ بعض من رصد حياتهم في ظل الإسلام: "لكن "البيل" في ماسينا (يقصد الفلان في بلاد ماسِنَ) يضعون الأخوة الإسلامية فوق أي اعتبار، وللدين في حياتهم اليومية المكانة الأولى". (12)
شعب الدعوة والجهاد: حسب المحفوظ المستقر تاريخيا يمكن إرجاء إجلاب الفلان خيولهم جموعا منتظمة في ميداني الدعوة والجهاد إلى تلك الأيام التي عسكر فيها المرابطون في الجانب الأيمن من الوادي بقيادة الشيخ عبد الله بن ياسين (المتوفي سنة 1031م) في مدينة دار السلام (اندر) الواقعة على مصب نهر السنغال، مستهل القرن الحادي عشر الميلادي؛ ثم ساحوا، بعد استكمال العدة استيعابا واقتناعا، فيما بين النهر والصحراء قبل الاستدارة نحو الغرب لدق أبواب أوروبا. تحرك الفلان في حقب لاحقة، وهم يحملون مشاعل عقيدتهم الجديدة في ظل القوى الإسلامية تعاقبت من الصحراء إلى حوض تشاد ومن مصب نهر السنغال إلى الغابات الكثيفة جنوبا، ليتعاظم دورهم في المرحلة التي ستلي سقوط الكيانات الكبرى، وهو الفراغ الذي مكنهم من تدشين مرحلة جديدة من حركتهم في ظل الإسلام. وعن سباحاتهم فوق التلال وعبر الغابات وهم يحملون هم الدعوة وشغف التعريف بحقائق دينهم الذي هدوا إليه يتحدث أحد من راقب سيرهم وتتبع خطاهم وقد نزحوا جزئيا من ضفاف نهر السنغال: "إن الرعاة الآتين من فوتا تورو (السنغال) تغلغلوا تدريجيا في أوساط غينيا وأهلها "الوثنيين" من الديالونكه (13)، أدخلوا معهم ثيرانهم ودينهم وثقافتهم، وأخذوا عن الديالونكه قوسهم وعن الماندينغ سيفهم". (13)
قوم يعشقون العربية: هكذا لم يدر عليهم غير زمن يسير إلا وقد حذقوا كليات وجزئيات ما انتشر في مضاربهم من إشعاع جديد، ووجدوا أنه لا عهد لهم بمثل هذه النكهة السماوية، ووصل تشرب الثقافة الإسلامية بهم إلى مستوى التقمّص فظهرت آثار الثقافة الإسلامية في الأسماء والألقاب والأنساب وأسماء القرى والمدن والعادات الاجتماعية واللغات والألعاب والإنتاج الحرفي، وإلى عمق التأثير الذي أوجده الاحتكاك بين اللغة العربية وبين أوسع اللغات الإفريقية انتشارا وهي الفلاّنية، ما جعل أحد رواد تجديد التيار الثقافي العربي الإسلامي في غربي إفريقيا يطرح التساؤل التالي: "إن تفاعل الفلاّنيين مع الثقافة العربية الإسلامية أمر من العمق بحيث يلفت نظر الباحثين اللغويين أنفسهم في زعمي، للمرء أن يتساءل هل تعرض الفلاّنيون في مرحلة من مراحلهم التاريخية أن حكموا (بضم الحاء وكسر الكاف) من قبل حاكم مسلم شديد التعصب فرض اللغة العربية عليهم بالإجبار". (14) قد استطاعت المدرسة التي بناها الفلان أن تتجاوز الإطار المحلي حين أصبحت قبلة الطلاب من خارج المنطقة الذين جذبهم الصيت الواسع لعلماء المنطقة الذين خرجوا إلى العالم الإسلامي وهم يحملون راية المعرفة ينشرونها ووصلوا إلى درجة التصدر في الحجاز وفي المغرب العربي، وفي منطقة الوادي نجد اليوم مجالس علمية ظلت تقدم الثقافة الإسلامية أكثر من قرنين دون انقطاع كما هو الحال في مدرسة "بُكِجَوى" على سبيل المثال. مما يستطرف أن الوله بالعربية وبما حملته في طياته بلغ بهذا الشعب الذكي الفؤاد أن زاحموا الشناطقة الذين أخذوا عنهم الكثير من صنوف المعرفة التي تم إنضاجها في بوتقة الثقافة الإسلامية بل صعد بعضهم فادعي المشيخة على الجميع حتى إذا قال صاحب الطرة العلامة المختار ولد بون الجكني (1220هـ /1805) (15) في بيتين سارت بهما الركبان:
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجلُّ ذا العصر قدرا دون أدنانا
انتشى شاعرهم فقال مفاخرا: يا غاديا تركب الأهوال والخطرا وتطلع البيد كيما تدرك الوطــرا فبلغن كل قح من بني زمنــــــــي أنى توجهت أني أشعر الشعـــرا (16) وإنما تجاوزوا ذلك المستوى الرفيع إلى إحكام الرباط بين اللغة العربية وما تحمله من ثقافة وفكر وفنون المعرفة الضافية باللغات المحلية ثم تطلعوا إلى أفق أرحب فجعلوا الأدب والمنتج العلمي عموما انعكاسا لواقعهم وهو مطلب سيفشل فيه ورثتهم في مرحلة ما بعد الاستعمار ولن يفكر فيه خصومهم ممن تغرب أو تشرق حين تئول إليهم مقاليد الفكر والثقافة في معظم أرجاء القارة. مع كل هذه الروعة يبقى الأعجب متمثلا في تلك الظواهر الخارقة للعادة التي نلقاها في جنبات أسواق الثقافة في ديار مسلمي غرب أفريقيا عموما ولدى ركبان الفلان خصوصا ومن أهمها ذلك الإنتاج الشعري ذي النكهة الخاصة ونعني شعر أولئك الأدباء الأفذاذ الذين دبّجوا القصائد باللغات الأفريقية (اللغات الإسلامية) موظفين القوالب الشعرية التي تواضع عليها العرب دون أن يكون لهم أدنى إلمام باللغة العربية. أما الذي يجب أن نجليه هنا هو أن هذا الإنتاج ليس مجرد نتف شعرية عائمة نلقاها هنا وهناك، لكنه يمثل تيارا أدبيا مستقلا يتسم بعمق التجربة وغزارة الإنتاج وتعدد المشارب، وثمة عدد هائل من الأمثلة يمكن عرضها في هذا السياق للتدليل على قوة وحجم هذه لظاهرة الفريدة في عالم الفكر والثقافة. ومن هذه الأمثلة ملحمة الشاعر محمد علي تشام التي وضعها عن حياة وجهاد الشيخ عمر الفوتي تال وبلغ عدد أبياتها. (17)
التجربة الفلانية في إحياء الدولة الإسلامية: أخذ الفلان كل شيء من الحضارة الإسلامية على وجه التقريب لكنهم كانوا رائعين وهم يعطون عطاء وافرا متفردا، فبعد أن رأينا نتفا من هذا العطاء الفياض لغويا، اجتماعيا، ثقافيا نرسو على أبرز مجال يتجلى فيه عطاؤهم وهم يجوبون هذا الفضاء الذي يكادون يتصورون بأن لهم فيه حق العاصب. ثمة ميدانان نعثر فيهما على مآثر الفلان وهم يجوبون هذا الجزء من الكرة الأرضية حاملين خيارا عقديا سيصبغ هويتهم ويحدد ويبدل علائقهم من معهم من الأقوام، وهما: نثر بنود المعرفة المستمدة من المنظومة الإسلامية فتقا واجتهادا وتكييفا؛ الإصرار على إعادة بناء مظلة السلطة المستمدة قيمها وأركان سلطانها من شرائع الإسلام دعوة، تجديدا وتطبيقا، وقد تعاظم هذا الحس لديهم منذ سقط آخر قلاع من الكيانات الكبرى التي احتمى بها الإسلام قرونا. إذا كانوا قد استطاعوا بالدعوة تحبيب جيرانهم بما إلى قدمه الإسلام من نهج سديد لممارسة الحياة بعد فهمه، فإنهم قد استيقنوا، وبصورة عميقة ومتجددة كذلك، بأن العيش في ظلال الإسلام لا يتأتى إلا في إطار تنظيم مستوعب يعطى المنتسبين إليه خيار تكييف حياتهم وفق متطلباته في مجالي الدينونة العقدية والحياتية الدنيوية. كانوا يعرفون، قبل وفود الإسلام إليهم، حياة منتظمة في إطارين متداخلين ضمن رؤية تكاملية وهي القبيلة، بمعناها الاجتماعي والسياسي والروحي والعسكري؛ وفي حدودها الخارجية يوجد ما يمكن أن نسميه باتحاد القبائل أو القبيلة الأم الحاضنة للجميع مع اعتراف متبادل للحقوق والسلطات، ويوم اطلعوا على مستوى التفوق الذي يوفره لهم الإسلام لنظم الحياة سارعوا إلى تبنيه أو كما يعبر سورت كانال: "إن الثروة كانت في أيدي مربي المواشي، لكن أرستقراطيتهم العسكرية لم تفرض نفسها إلا من الإسلام". لنستوعب مدى النضج السياسي الذي وصل إليه الفلان ومستوى تغلغل الفكر السياسي الإسلامي في صفوفهم فلنقرأ النص التأسيسيالذي وضعوه لينتقلوا به من حالة حركة إصلاحية تحريرية إلى وضع قواعد دولة تتحاكم في مناهج الحكم إلى الرؤية الإسلامية": "إن النصر مع الصبر .. إني لا أدرى هل أموت في هذا القتال أم لا!، فإذا مت فاطلبوا إماما عالما زاهدا لا يجمع الدنيا لنفسه ولا لعقبه، وإذا رأيتموه قد كثرت أمواله فاعزلوه وانهبوا أمواله، وإذا امتنع من العزل قاتلوه واطردوه لئلا يكون ملكا عضوضا يتوارثه الأبناء عن الآباء وولوا مكانه غيره من أهل العلم والعمل من أي القبائل كان ولا تتركوا الملك في قبيلة خاصة لئلا يدعوه وراثة بل ملكوا لكل مستحق". (18) مثلت هذه النقلة الفكرية التي حولها من أطلقها إلى حركة ثم إلى دولة، بداية حقبة جديدة في الوجود الإسلامي في كل غربي إفريقيا ليصل صداها بعد ذلك إلى حوض تشاد وما وراءه، لأنها شكلت أرضية لنشأة سلسلة من الدول والإمارات والسلطنات التي أقامها الفلان على أساس الإسلام ابتداء من بداية القرن السادس عشر الميلادي إلى لحظة سقوط آخر قلعة من قلاع المقاومة الإسلامية ضد العدو الغازي والتي كان الفلان في طليعتها. شملت هذه التجربة قيام عدد مهم من الكيانات السياسية في أهم مناطق القارة على أساس الإسلام طغى عليها وصف "الإمامية" حيث كان رأس النظام يجمل لقب الإمام، ونختار منها النماذج التالية: آ/ إمارة "بند الإسلامية" (شرقي السنغال)، نشأت سنة 1681م على يد العالم مالك سِهْ الكبير؛ ب/ دولة الأئمة في "فوتَ تورُ"، قامت بعد ثورة ناجحة قادها العلماء سنة 1776م وسقطت 1891م تاريخ وفاة آخر إمام للدولة بجثو الاحتلال الفرنسي على البلاد؛ ت/ دولة صكتو الإسلامية سنة 1810م بقيادة الشيخ عثمان بن فدوي الذي هاجر أجداده من بلاد فوت تور وكان لها أبرز الأثر إما في أسلمة شعوب حوض تشاد وما جاوره وإما في إعادة تثبيت أركان الوجود الإسلامي في المنطقة؛ ث/ إمارة "ماسِنَ الإسلامية" التي أسسها الشيخ المجاهد أحمد لُبُّ باه الذي ينحدر من بلاد فوت تور وذلك سنة 1818م؛ ج/ دولة الحاج عمر الفوتي تال (1797م – 1898م التي تعرفها مصادر بالإمبراطورية التجانية التي تعبر آخر المحاولات الأكثر جدية لإحياء الدولة الإسلامية في إفريقيا ما وراء الصحراء. وهنا ملاحظة جوهرية يسجلها عدد من الباحثين ممن درس هذا الحراك الحضاري الذي قاده الفلان، ألا وهي أن حركات الفلان الإصلاحية وثوراتهم الإسلامية التي غيرت مجرى التاريخ في المنطقة وكانت لها أصداء وارتدادات في أنحاء من العالم الإسلامي، سبقت كل الثورات الغربية التي دشنت مرحلة النهضة في تلك البلاد كما سيلاحظ رحالوهم الذين زاروا المنطقة وفوجئوا بما وجدوه من تنظيم وعمران وحيوية، كما سبقت هذه الحركات معظم حركات الإصلاح في الشرق الإسلامي. (19)
عصارة، في الواقع لا أجد ما أضع به القلم لختم هذه الورقة، التي ضاقت في الواقع عن مسايرة لحاث الفلان في موكب الحضارة الإسلامية وقد انتقلوا إلى طور العطاء الثر بعد أن عبئوا أوعيتهم وشربوا تلك الكأس حتى الثمالة، أفضل من مقولة نسجت من صافي عقل وزلال قلب رجل يمثل أحد أكثر النماذج تجلية لجمال سياحات الفلان مع ركبان الإسلام: "التكررة إسلام ودولة، والفلتة شعب ودعوة". (20)
هوامش: (1) هذه فرية فندها بل نسفها شيخ حامد كَنْ نسفا بمقولته المجلجلة الواصفة للحظة التقاء فلانيي حوض نهر السنغال بمن غزا واديهم الآمن: "يوم التقى من لا تاريخ له بمن كانوا يحملون العالم فوق أكتافهم"، انظر روايته المغامرة الغامضة، ترجمة محمد سعيد باه، المجلس الوطني للثقافة والفنون، ضمن سلسلة إبداعات عالمية، الكويت، 2010م. (2) انظر أ. د. الهادي المبروك الدالي في كتابه قبائل الفلان دراسة وثائقية، سلسلة من تاريخ القبائل الأفريقية، ط2، بنغازي، 2007م. (3) د. عبد الله عبد الماجد إبراهيم، "الفلاتو أو الفلان: من هم؟ ضمن كتاب الخرطوم والشعب الدعاة، مجموعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة. (4) أما هم فلا يزالون حيثما كانوا يعرفون أنفسهم بأنهم "فُلْب" (FULBE) بإمالة الباء إذا كانوا جمعا أما فردهم فهو "ﭭُلٌّ" (PULLO). (5) د. عبد الله عبد الماجد إبراهيم، الغرابة، دار الحاوى للطباعة والتوزيع والنشر، 1418هـ / 1998م. (6) حسب القائمة التي وضعها أ. د. الهادي المبروك الدالي في كتابه قبائل الفلان دراسة وثائقية فقد بلغ عدد البلدان التي يعيش فيها الفلان حاليا (25) من موريتانيا إلى الصومال مع جناحين يمتد أحدهما شمالا ليضم كلا من مصر والسودان بينما يتجه الثاني جنوبا ليشمل جمهورية الكونغو الديمقراطية. (7) موسى أحمد كمرا، زهور البساتين في تاريخ السوادين، تحقيق د. ناصر الدين سعيدوني ود. معاوية سعيدوني، مجمع البابطين، الكويت، 2010م. (8) في الواقع تعتبر قبائل "السوننكى" إحدى أفخاذ الماندينغ والأكثر أهمية وبالأخص ساعة يتعلق الأمر بحمل رسالة الإسلام ونشر ثقافته في غربي إفريقيا. (9) . حسن أحمد محمود، الخرطوم والشعب الدعاة، مجموعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة. (10)أبو بكر خالد با، تاريخ تطور الثقافة الإسلامية بوادي السنغال، بحث غير منشور في حوزة الباحث نسخة منه. (11)انظر محمد سعيد باه، بحث قدم في قسم الدراسات العليا بكلية الإمام الأوزاعي، بيروت، 2000م. (12)يشير إلى شعب "جَلُّنْكي" إحدى أفخاذ شعب "ماندنغ" الكبير والمنتشر في غربي إفريقيا. (13)فنسا مونتاي، الإسلام في إفريقيا السوداء، ترجمة إلياس حنا إلياس، دار أبعاد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1983م، ص:70. (14)عمر محمد صالح، الثقافة العربية الإسلامية في الغرب الأفريقي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1992م. (15)الذي كان صديقا حميما للإمام عبد القادر حمد كن أول من تبوأ منصب الإمام في دولة الأئمة ببلاد فوت تور 1776م، ولما استشهد الإمام رثاه ولد بون بحرقة. (16)البيتان للعلامة تشارن حامد آن الذي بوأه علو كعبه في العربية أن حكّمه فطاحل الشعر من الشناطقة في منازعاتهم الشعرية حتى تدخلت السلطات الاستعمارية فمنعته. (17)انظر تراث مخطوطات اللغات الأفريقية بالحرف العربي" من إصدار المعهد العربي الأفريقي للثقافة. (18)هذا النص وضعه الشيخ/ سليمان راسِنْ بال الذي فجر حركة ثورية منتصف القرن الثامن عشر لإسقاط مملكة "دينينكوبي" في بلاد فوت تور ولتامين السكان من الاعتداءات الخارجية، وقبل استشهاده بقليل وضع هذه الوثيقة ثم رشح أربعة من كبار العلماء لاختيار إمام من بينهم. وللتوسع عن هذه التجربة يراجع محمد سعيد باه، دولة الأئمة تجربة إسلامية ناجحة على ضفاف نهر السنغال. (19)فنسا مونتاي، الإسلام في إفريقيا السوداء، مصدر سابق. (20)نسبها د. عبد الله عبد الماجد إبراهيم إلى العلامة الشيخ/ عمر محمد فلاتة في "الخرطوم والشعب الدعاة"، مجموعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة.
|