موريتانيا.. بنية اجتماعية ثابتة وتاريخ متغير/ الدكتور محمد ولد ادده * |
يكشف لنا الرئيس الموريتاني الأسبق المرحوم المختار ولد داداه في مذكراته[1] أنه قبل زهاء نصف قرن من الآن كانت قلة فقط من الذين تعلموا في مدارس المستعمر على دراية كافية بضرورة التخلي عن حياة القبلية والصراع لما لها من انعكاسات سلبية على المجتمع، لصالح الانتظام داخل الدولة. بينما كانت الغالبية، وخاصة ذوي النفوذ ومن يتبعهم، ترى في الدولة خطرا يهددها يشير كانط في "فلسفة التاريخ" إلى أن الإنسان بدافع من الرغبة في تفصيل الواقع على مقاسه غالبا ما يحاول توجيه معطيات هذا الواقع بما يتلاءم مع هواه ـ ينطبق هذا القول أيضا على الفآت الاجتماعية ـ وهذا يعني أن السلطة الاجتماعية التي يستدعيها العيش المشترك في ظل الجماعة الإنسانية ستكون بالضرورة متعارضة مع ميول هذا الإنسان؛ لأنها وبحسب المنطق العادي للأشياء لا يمكن أن تكون في مجملها مفصلة على إنسان بعينه أو فئة بعينها. والحالات التي يحدث فيها ذلك هي حالات غير حميدة وسيئة الصيت، لما تنتجه من أثر سلبي عميق على بنية المجتمع، يتمثل في حلول رؤية إنسان أو فئة، محل رؤية كل المجتمع. وبالتالي تتشكل جزيرة اجتماعية ـ نخبة ـ منظمة ومسيطرة داخل هذا المجتمع قد لا تقيم وزنا إلا لتصوراتها، من ما قد يذكي شعورا عاما داخل المجتمع بأن كل ماهو صادر عن هذه الجماعة مرفوض "مبدأً"من قبل باقي مكوناته؛ لأنه لا يمثل إلا ما تمثله تلك الجماعة. وهذا يعني أن تشكيل النظام الحاكم لبنية العلاقة داخل المجتمع وفق هذا النمط لن يؤدي كما أكد على ذلك "جان وليام لابيار" إلى تحقيق انسجام مجتمعي يستبعد كل علاقة اجتماعية سلبية[1]. وبالتالي ستكون نتيجة ذلك انفصاما في عرى ما يسميه "هيغل" مصالحة الفردي مع الشامل داخل البنية الاجتماعية؛ بمعنى أن نظام السيطرة والتوجيه إذا لم يكن في جوهره ومبناه مؤسسا على رؤية غير إقصائية، ونابعة من عمق المجتمع الذي يحكم. فإن نتيجته الحتمية هي مزيد من انعدام التناغم بين البنى داخل المجتمع. كما أن أي اختلال في التساير الزمني لنضج العقلية السياسية للمجتمع، والانسياب الزمني للدولة ستكون نتيجته تباين في الحركية والثبات بين المجتمع ونظامه. إن هذا يمكن أن يزودنا بآلية منهجية نقيس من خلالها مستوى التناغم بين أولويات التنظيم السياسي كإطار جامع يستهدف تذويب التناقضات تحقيقا لما يراه مصلحة عامة للمجتمع، وبين رؤية المجتمع لما يفترض أن يشكل إطارا جامعا مقبولا لاحتواء تناقضاته تحقيقا لمصالحه. وترتكز هذه الآلية على مؤشري قياس: الأول: هو ضرورة تحقق الانسجام بين البنيتين الفوقية والتحتية للمجتمع، ويمكن قياس ذلك من خلال دراسة مستوى انعكاس الثانية في الأولى؛ بمعنى التحقق من ما إذا كانت البنية الفوقية ناتجة عن التفاعلات التي تشهدها البنية التحتية أم لا. والثاني: قياس مستويات تطور العقلية السياسية للمجتمع ومدى انسجامها مع الانسياب الزمني للدولة، وذلك من خلال استقراء دلالة نماذج من وقائع الإجتماع السياسي. وهكذا وبناء على ما تقدم يمكننا أن نؤسس دراستنا هذه على الفرضية التالية: كل ما كان هنالك انسجاما بين البنيتين التحتية والفوقية من جهة، وبين الانسياب الزمني للدولة وتطور العقلية السياسية للمجتمع من جهة أخرى. كنا إزاء انسجام بين الحركية التاريخية والبنية الاجتماعية. وبالتالي تقلص مستوى وانتشار "الأزمة السياسية". والعكس صحيح. وهي الفرضية التي سنحاول مقاربتها انطلاقا من السؤال التالي: هل هنالك تناغم بين الانسياب الزمني للدولة والنضج السياسي للمجتمع في موريتانيا ؟. يكشف لنا الرئيس الموريتاني الأسبق المرحوم المختار ولد داداه في مذكراته[2] أنه قبل زهاء نصف قرن من الآن كانت قلة فقط من الذين تعلموا في مدارس المستعمر على دراية كافية بضرورة التخلي عن حياة القبلية والصراع لما لها من انعكاسات سلبية على المجتمع، لصالح الانتظام داخل الدولة. بينما كانت الغالبية، وخاصة ذوي النفوذ ومن يتبعهم، ترى في الدولة خطرا يهددها، وتؤكد المصادر التاريخية أن هذا الصراع، أو الرفض لفكرة الدولة ذو خلفية مزدوجة؛ ثقافية في أحد جوانبها، حيث ترى الغالبية أن دعاة الدولة ممثلين للاستعمار الذي لا تجوز موالاته دينيا وثقافيا. ومصلحية في جانبها الآخر؛ فالصفوة من غير المتعلمين في مدارس المستعمر تنظر إلى فكرة الدولة كوسيلة لتجريدها من سلطتها المادية والمعنوية التي تمثل مصدر نفوذها داخل المجتمع. وكما هو واضح فإن استحضار هذا التاريخ يشير إلى التناقض العميق الذي واكب قيام الدولة "مجتمع واحد و بنيتان". وإن كان هذا الصراع حسم لصالح خريجي مدارس المستعمر. والآن وبعد واحد وخمسون عاما من العيش في ظل الدولة، يمكننا أن نلاحظ وجها جديدا لهذا الصراع. فعوضا عن التجاذب حول فكرة الدولة التي أصبحت واقعا، أخذ الصراع نمطا آخر. فالصراع اليوم هو صراع مواقع بين نخبة جديدة تحاول احتلال موطئ داخل مجسم السلطة لتجسد من خلاله رؤيتها بشأن بناء الدولة الموريتانية الحديثة وفق مقاربة جديدة، تتأسس على أولوية الإصلاح، وتكريس العدالة الاجتماعية في إدارة الشأن العام وإعادة توزيع الثروة الوطنية. وآخرين يريدون الحفاظ على مكتسبات راكموها على مدى عقود من غياب الشفافية والموضوعية في التعاطي مع الشأن العام؛ وهو ما يكشف عن نوع جديد من التناقض "مجتمع واحد ومنهجان". إذا لدينا مجتمع واحد وبنيتان، ومجتمع واحد ومنهجان، والمحصلة مجتمع برؤيتين؛ رؤية مادية واقعية تستمد وجودها من الإرث التاريخي والتحرك ضمن المصالح الخاصة. وأخرى فكرية مثقفة تتأسس على أيديولوجيا الإصلاح. وهو ما يشير في ظاهره إلى نوع من الحركية التاريخية، ولكن هل تستجيب خصائص الاجتماع الموريتاني لهذا الحراك ؟. إن تحليل مجريات الأحداث كفيل بالإجابة عن هذا السؤال. غير أن حدود العقل والإدراك تتقلص حتما عندما تتكاثر المتغيرات بشكل متلاحق وسريع ـ كما هو الحال في موريتانيا ـ بحيث يصبح لزاما على المتبصر وقتها التأني لفهم الواقع كما هو، وتحصين عملية التفكير من الانسياق وراء تلاحق الأحداث، الذي يجعلها مجرد وصف للواقع. ذلك أن محاولات "التحليل الوقائعي السياسي" تتطلب فحص الواقع مساءلة وتحقيقا قبل التبرم منه، وفي نفس الوقت الكشف عن حوافز أو عوازل التطور الكامنة داخله. وهو ما يستدعي نوعا خاصا من قراءة الأحداث يقوم في جوهره على تشريح ونقد الخلفيات الاجتماعية والنفسية للمجتمع الذي وقعت فيه، بمؤسساته ووقائعه الاجتماعية، وثقافاته، في محاولة لإدراك ماهية الواقع ضمن سياقه العام. وبالتالي فهم جوهر علاقتنا به، وما إذا كانت في الاتجاه الصحيح أم لا؟
1)- حدود التناغم بين البنيتين الفوقية والتحتية يمثل الاجتماع السياسي تلخيصا لفكرتين: فهو منظومة من القواعد الوازعة. وهو كذلك منظومة من التفاعلات الاجتماعية المتغيرة. وهذه القواعد هي التي تحول بينه والتحول إلى خواء من الفوضى. وتلك التفاعلات هي التي تجعل منه كلا منسجما ومتحركا باتجاه مصالح متضامنة. لكن هذا لا يفترض ضرورة التماهي المطلق بين مكونات هذا الاجتماع. إنما يفترض فقط وحدة في ظل التعدد. يكون أساسها في تحديد المصلحة العامة المشتركة واحدا. لكن رؤاها المحددة لسبل تحقيق تلك المصلحة قد لا تكون متطابقة. إنما متعددة. وهذا ما يسميه دوركهايم "التكامل الهدفي مع التعارضات الأسلوبية"[3]. إن هذا يكشف لنا عن وجود مستويين يمثلان دعامتي الاجتماع السياسي. لا يستقيم إلا بتناغمهما هما: التفاعلات الاجتماعية، والمؤسسات السياسية. أو ما أصطلح على تسميته في أدبيات الفكر السياسي بالبنية التحتية، والبنية الفوقية. والمقصود بالبنية التحتية هنا ليس ذلك التصور الماركسي الذي يختزلها في "علاقات الانتاج". إنما المقصود بها مجموع التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحدث داخل المجتمع. أما البنية الفوقية فهي مجموع القواعد الضابطة للسلوك التي تنشأ بفعل "التدافع" الذي تشهده هذه التفاعلات بهدف حماية النظام من التفكك والانحلال. وهكذا وحتى تكون البنية الفوقية مدعمة للاستقرار، وحائلا دون خلق وتعميق الأزمة السياسية، لا بد أن تكون نتاجا للبنية التحتية وانعكاسا للتدافع الذي تشهده؛ إذ بدون ذلك يتحول التدافع من مستواه العادي داخل البنية التحتية، إلى مستوا غير عادي مجاله البنية الفوقية. وهو ما يمثل أولى تجليات الإحتقان والأزمة السياسية. وبالتالي واعتبارا لما تقدم فإن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق لمقاربة العلاقة بين البنيتين التحتية والفوقية في موريتانيا متعلق بمستوى انعكاس الأولى في الثانية. وهو ما سنحاول قياسه من خلال دراستنا لمستوى تمثيل ما شهدته موريتانيا من حركية دستورية ومؤسسية للثقافة والقيم المجتمعية الموريتانية بتنوعها. والمقصود بالثقافة هنا هو ذالك التحديد الذي يرى أنها عملية إعادة إنتاج متجددة للمعايير وفق مدركات جماعية محددة تجد أصلها في التفاعل بين مجموعة بشرية داخل حيز جغرافي عبر الزمن. يكشف لنا تاريخ الوقائع والمؤسسات الاجتماعية والسياسية الموريتانية مستوا معقولا من الحركية. فمنذ عام 1959 وحتى العام 1991 مرورا بالعام 1961 عرفت موريتانيا ثلاث جمهوريات متمايزة المرجعيات. فالجمهورية الأولى والتي تأسست بموجب دستور 1959 هي دولة إشتراكية دينها الإسلام، وذات نظام برلماني منقوص السيادة بتبعيته للجامعة الفرنسية الإفريقية. صحيح أن لغتها الوطنية حسب نص الدستور هي العربية. لكن لغتها الرسمية كذلك بنص الدستور هي الفرنسية[4]. أما الجمهورية الثانية والتي تأسست بموجب دستور 1961 فهي جمهورية ليبرالية دينها الإسلام ومتمسكة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان دون تحفظ. مع كل ما يعنيه ذلك من تعارض مع المرجعية الإسلامية للدولة. وهي ذات نظام شبه رئاسي كامل السيادة. ولغتها الرسمية العربية. في حين أن الجمهورية الثالثة والتي تأسست بموجب دستور 1991 هي جمهورية ليبرالية دينها الإسلام، وذات نظام شبه رئاسي كامل السيادة، ولغتها الرسمية العربية على غرار الجمهورية الثالثة. غير أنها لا تتمسك سوى بالمبادئ الديموقراطية الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان دون غيرها. في تجنب واضح للقيم المتعارضة مع المرجعية الإسلامية التي شملها الإعلان[5]. إن هذه الوقائع تكشف للمتتبع بما لا يدع مجالا للشك عن وجود حركية معقولة على المستوى الدستوري، وهذه الحركية الدستورية تفترض حركية كذلك على مستوى المؤسسات السياسية المنبثقة عنها. كما تكشف عن حركية على مستوى القيم؛ فلكل دستور مؤسساته. ولكل دستور قيمه. فمن إشتراكية دينها الإسلام، إلى ليبرالية مسلمة متمسكة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان بكل مقتضياته، إلى ليبرالية مسلمة لا تتمسك سوى بالمبادئ الديمقراطية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولا يخفى ما تعنيه هذه الحركية من افتراض وجود تدافع داخل البنية التحتية في موريتانيا كان وراء تسيير تناقض قيمها، أنتج هذا الانتقال؛ من إشتراكية مسلمة لغتها الرسمية فرنسية، إلى ليبرالية مسلمة متقيدة بالمبادئ الديمقراطية لغتها الرسمية عربية. ويبقى السؤال هو ما مدى صحة هذا الافتراض؟ وهل كان وراء هذه الحركية تدافعا داخل البنية التحتية في موريتانيا؟ أم كان وراءه شيء آخر؟ تزودنا القراءة المتأنية للمصادر التاريخية بالإجابة عن هذا السؤال. ففي كتابه "موريتانيا على درب التحديات" لخص مؤسس الدولة الموريتانية الحديثة المرحوم المختار ولد داداه رؤيته لحقيقة الذهنية الاجتماعية الموريتانية أواخر الستينات في القول بانتمائها إلى القرون الوسطى[6]. وهو حكم يكشف في أحد جوانبه ولو ضمنيا عن عدم قدرة هذه الذهنية على استيعاب التفاعلات التي تتطلبها دولة حديثة بمقاييس القرن العشرين. ويكشف في جانبه الآخر تقريرا من الرئيس بافتقار المجتمع الموريتاني ــ عدى النخبة التي يمثلها الرئيس ــ لآلية "التدافع السياسي" المتمثلة في الوعي. ولا يفوتنا هنا التنويه إلى أن هذا الحكم على الذهنية الموريتانية من الرئيس المؤسس يشمل زمنيا الجمهوريتين الأولى والثانية. وفي كتابه "موريتانيا الحديثة أو العرب البيض في إفريقيا السوداء" الذي نتحفظ على بعض الطروحات التي يروج لها، توصل محمد يوسف مقلد من خلال تتبع دقيق لمجمل الممارسات الفرنسية في شبه المنطقة إلى نتيجة هامة مقتضاها؛ أنه تماما كما كذب الفرنسيون بخصوص اختيار الجزائريين عدم الانفصال عن فرنسا، وكما كذبوا بخصوص القول إن نفي ملك المغرب محمد الخامس وتتويج محمد إبن عرفة كان رغبة شعبية مغربية. كذبوا كذلك بشأن انتخاب الجمعية التأسيسية الموريتانية التي تولت المصادقة على دستور 1959. فهذه الجمعية لم تكن تمثل المجتمع الموريتاني حسب رأي مقلد. إنما كانت تمثل تحالف مصالح بين فرنسا الرسمية، والنخبة الموريتانية المتخرجة من مدارسها[7]. وهذا يكشف لنا معطيين هامين: الأول هو أن بنية التفاعلات داخل المجتمع الموريتاني في ذلك التاريخ كانت قاصرة عن فهم وتقييم القواعد والمؤسسات التي من المفترض أن يؤسس لها دستوري الجمهوريتين الأولى والثانية. وبالتالي فاستفتاؤها وقبولها لهذه الدساتير ليس بذي قيمة تفسيرية في ما يتعلق بعلاقة المجتمع بالمؤسسات المتمخضة عن هذه الدساتير. والثاني هو أن الممثلين الذين انتدبوا لمهمة نقاش فصول الدستور والمصادقة عليه على الأقل بالنسبة لدستور الجمهورية الأولى لم يكونوا يمثلون المجتمع حقيقة. وإذا ما أضفنا إلى ذلك التناقض الذي سبق وأوردنا في مقدمة هذه الدراسة بشأن التجاذب حول فكرة الدولة، وعلاقتها بالمستعمر الكافر حسب عقلية المجتمع البدوي المحافظ آنذاك. والتي يعضدها إفتاء بعض العلماء بردة كل من صوت لدستور 1959 وعلى رأسهم العالم محمد سالم ولد ألما. دون أن ننسى طبعا الرؤية المجتمعية الشعبية التي كانت تخلط بين الإشتراكية والكفر، لاتضحت لنا الصورة جلية. وهي أن دستور الجمهورية الأولى والمؤسسات المنبثقة عنه. لم يكونا تمثلا أمينا، وانعكاسا صحيحا للبنية التحتية الموريتانية. ولا تجسيدا للتدافع داخلها. إنما كانا يمثلان انعكاسا لتصورات فئة بذاتها من المجتمع الموريتاني لما يفترض أن يشكل النظام الضابط للمجتمع، وهي خريجي مدارس فرنسا. وقد مثل ذلك بداية الانفصام بين منظومة القواعد الوازعة، ومنظومة إنتاج وإعادة إنتاج المعايير. ونفس الحكم يمكن تبنيه بالنسبة لدستور الجمهورية الثانية ومؤسساته؛ وذلك لقصر الفترة الزمنية التي فصلت بين سريان الدستورين أولا. والتشابه النسبي في الطريقة التي تم بها إقرارهما ثانيا. وتقارب إن لم نقل تطابق الخصائص المميزة للبنية الاجتماعية التي سريا في ظلها ثالثا. هذا فضلا عن أن دستور الجمهورية الثانية ضرب التعدد صراحة، وكرس مكانه الأحادية السياسية في تعديل 1965[8]. ما يعني أنه كان أكثر جرأة من سابقه في إقصائه للأصوات السياسية غير المتبنية للرؤية التي يرى القائمون على الأمر آنذاك أولويتها في التعاطي مع التناقضات المجتمعية تحقيقا للمصلحة العامة. وهو ما أنتج واقعا اتسم فيه نظام السيطرة والتوجيه بتأسسه في جوهره ومبناه على رؤية إقصائية. وبالتالي تعمقت بسبب ذلك ظاهرة الانفصام التي تكرست في ظل الجمهورية الأولى. وقد أسفر كل ذلك عن تفكك في عرى تماسك النخبة المسيطرة، وتصدعا كبيرا على مستوى الانسجام المجتمعي؛ تمخضا عن حدثين بارزين كان لهما ما بعدهما: الأول على مستوى النخبة الحاكمة والتي انشق بعضها على إجماعها والتحق بالمغرب مطالبا بانضمام موريتانيا إليه في اعتراض صريح على ما اعتبروه رؤية ضيقة لا تمثل إلا مصالح بعض المسيطرين على مقاليد الحكم. والثاني على مستوى المؤسسة العسكرية التي قررت التحرك والسيطرة على الحياة السياسية، إبعادا لما اعتبره القادة العسكريون حينها لقيادة سياسية انفصلت عن قواعدها ولم تعد تمثل إلا نفسها. وهو ما شكل منعطفا خطيرا في سيرورة بنية العلاقات داخل المجتمع الموريتاني التي تحولت تفاعلاتها إلى مستوى سلبي كان من أبرز تجلياته الإنشقاق والإنقلاب. هذا بالنسبة للجمهوريتين الأولى والثانية. أما بالنسبة للجمهورية الثالثة ودستورها، فرغم أنهما جاءا بعد ثلاثين عاما من صدور دستور الجمهورية الثانية، وثلاثة عشر عاما من سقوط هذا الأخير. ما يفترض تطورا في الذهنية السياسية وتناميا لآلية التدافع داخل البنية الاجتماعية الموريتانية. وبالتالي تحكمها في تحديد الملامح العامة للبنية الفوقية. فإنه رغم ذلك، ورغم انسجامه مع الكثير من خصائص المجتمع الموريتاني من حيث المرجعية القيمية. لم يخرج في طريقة إصداره، ولا في طريقة ترجمته لحقيقة التفاعلات الاجتماعية عن سابقيه. والسبب واضح وبسيط؛ فقد عانت البنية الاجتماعية الموريتانية طيلة الفترة الممتدة بين صدوره وسريان سلفه جمودا كبيرا على مستوى التفاعل والتدافع، سببه الرؤية الأحادية التي تحكمت في التعاطي مع الشأن العام، والتي حولت الدولة إلى كيان متجسد في نظام مسيطر، تضاءلت أمامه كافة الشرعيات، وأصبحت برضاها أو بدونه، تستمد مقومات استمرارها واستقرارها من الخضوع لمعاييره وقيمه التي لم تشارك في وضعها أصلا. سواء كان ذلك في ظل نظام الحزب الواحد من 1965 إلى 1978، أو في ظل المجالس العسكرية من 1978 إلى 1991[9]. وبالتالي جاء دستور الجمهورية الثالثة نتيجة لذلك شبه منبت عن السياق الاجتماعي الذي يحكم؛ لأنه لم يأتي كإفراز طبيعي للتدافع داخل البنية التحتية والذي كان غائبا في الحالة الموريتانية على طول الفترة الممتدة من 1961 إلى 1991 بسبب طغيان الأحادية السياسية. إنما جاء نتاجا لسياقات خارجة عن هذا التدافع. تمثلت في ضغط إفرازات ما يسمى النظام الدولي الجديد ــ خاصة مؤتمر لابول[10] ــ التي فرضت نفسها على القائمين على الشأن العام الموريتاني في تلك المرحلة. وجعلتهم يضعون نصا دستوريا تجاوز في بعض مقتضياته نضج العقلية السياسية للمجتمع. والنتيجة دستور تعددي يحكم بنية إجتماعية تشربت الأحادية السياسية على مدى ثلاثين عاما. ما أفضى إلى تنامي قطيعة بين النص والتطبيق. وتجذر الانفصام بين النص ومؤسساته كبنية فوقية، ومنظومة التفاعل التي ينظم كبنية تحتية. ولعل ذالك ما يفسر عجزه وقصوره على مستوى تكريس سلطة مؤسسة في موريتانيا. رغم جودة النص في الكثير من مقتضياته. إذا هنالك حركية على مستوى البنية الفوقية في موريتانيا يمثلها قيام ثلاث جمهوريات متباينة المرجعيات، ومتمايزة المؤسسات. غير أنها كما رأينا لم تكن في أي من تجلياتها صدى للتفاعلات داخل البنية التحية. بل كانت نتاجا لأولويات النخبة المسيطرة في المحافظة على مصالحها، وإن روعيت فيها بعض المبادئ القيمية للمجتمع صناعة للإجماع. وهذا يقدم لنا إجابة عن سؤالنا المتعلق بمصدر حركية البنية الفوقية الموريتانية؛ فهذه الحركية على مستوى المؤسسات والوقائع السياسية التي شهدتها موريتانيا كما هو واضح من مقتضيات التحليل الذي قدمنا. لم يكن مصدرها وجود تدافع داخل البنية التحتية في موريتانيا. إنما كان وراءها حرص النخبة المسيطرة على تثبيت سلطتها، إما بوضعها لدستور لا يعكس إلا رؤيتها، أو بوضعها لآخر يحفظ لها استمراريتها وينفي عنها صفة الشذوذ في محيط دولي متغير، لكن المُخرج في الحالتين كان إما خداجا، أو هجينا، ولا يربطه بالتفاعلات الإجتماعية إلا ما يربط الذئب بدم يوسف. إن هذا يضع يدنا على مسألة طالما أرقت الباحثين في محاولاتهم تفسير الحياة السياسية الموريتانية؛ وهي سبب عجز القاعدة التفسيرية القائلة بارتباط تطور المؤسسات القانونية والسياسية في صيرورتها بالتطور الثقافي والفكري للمجتمع عن تفسير تفاعلات البنيتين التحتية والفوقية في موريتانيا. ويمكن إرجاع سبب هذا العجز تأسيسا على ما تقدم لاعتبارين: يتمثل الأول في الخصوصية التي طبعت الرؤية السياسية لهذا المجتمع، والتي ورثها عن حقبة ما قبل قيام الدولة الوطنية. حيث ارتبطت عنده الدولة بما يسميه بين مزدوجتين "النصارى" في كناية عن المستعمر. وبالتالي تكرست في مخيلته الجمعية صورة سلبية لما تمثله مؤسساتها، وبالتالي عزل نفسه عنها اختيارا، وقد ظلت هذه الصورة أو التصور يلازم هذا المجتمع إلى وقت قريب. ويتمثل الثاني في رزوح هذا المجتمع تحت وطأة الفقر والأمية والمحسوبية والسلطة المجسدة، ما أثر بشكل كبير على نمو آليات التدافع لديه. فنتيجة لانعدام الوعي بقيمة التدافع، ونتيجة لارتباط الحصول على الحق بالولاء، وانفصامه عن الاستحقاق. تجذرت لدى هذا المجتمع رؤية سياسية غريبة في مبناها يسميها الباحث "نمط الحياة السياسية الموريتاني" يجسدها واقعيا منذ الإستقلال نمط جامد تمثله "موالاة غير واعية[11] ونابذة لشتى صور المدافعة". وهكذا يكشف لنا تحليل مجمل المراحل التي مر بها تطور الوقائع والمؤسسات السياسية الموريتانية في علاقتها بتفاعلات البنية التحتية ضعفا كبيرا على مستوى التناغم بين البنيتين التحتية والفوقية في موريتانيا. فالتحتية ثابتة، والفوقية متحركة. ولعل من ما يشهد لذلك علاوة على ما قدمنا من تحليل أن البنية الإجتماعية الموريتانية رغم كل الدساتير التي عرفت، ورغم كل المؤسسات التي من المفترض أن تكون قد انبثقت عنها. لم تبني ثقافة سياسية بالمعنى الحديث؛ أقصد أنها لم تستطع تشكيل ما يسميه برهان غليون "إجماعا سياسيا يضمن الخلاف ويتجاوزه"[12].
2)- تطور الذهنية السياسية يعلمنا العلم، وخاصة الإجتماعي. أن المجتمع المدني كواقعة اجتماعية تاريخية لا كمفهوم قانوني، يتميز بأنه مسلسل تاريخي من تفاعل الرموز والمعتقدات والبيئة. مفرز لمجموعة من الإلتزامات التي تنظم أسس المشاركة الجماعية في تحقيق غايات المجتمع. وتمنح هذه المشاركة قوة ــ قد تكون معنوية فقط ــ في مواجهة الخروج على ضوابط الإنتظام الجماعي. لا مجال إذا للفردانية، ولا للتحلل من الإلتزامات التي تقيدنا بها ضرورة العيش المشترك داخل المجتمع المدني. وهذا ما يعطيه ميزة خاصة على مستوى بناء الوعي؛ فالمدنية تكريس "للإلتزام الواعي" بحاجة المجتمع لقدر من الضبط يحتوي تناقضاته. لا يمكن تكوينه وتطويره بمعزل عن ما تتيحه العقلية المدنية من جو عام مساعد على التمكن المعرفي، وتنمية روح المشاركة في الهم العام؛ وبذلك يكون النسق الاجتماعي مرتبط في قابليته للتطور والبناء الثقافي الواعي بمرتكزين: التعارض الموضوعي بين بناء "الإلتزام الواعي" والحياة بنمط من الفوضى قليلة التنظيم[13] (نقص الإنضباط). والإرتباط الموضوعي بين بناء النضج السياسي ووجود نوع من الإنتخاب الدائم والمستمر للطرق التي يتم بها تسيير التناقضات البينية الداخلية[14] (تكريس ثقافة المشاركة)[15]. ولا يخفى ما لهذين المرتكزين من أهمية في بناء وتطوير الذهنية السياسية؛ فقلة التنظيم نقيض الوعي. وانعدام المشاركة نقيض النضج السياسي. إن هذا يعني في مجمله أن تطور الذهنية السياسية تابع في تحققه لتوافر متغييرين؛ التمكن المعرفي. والنضج السياسي. وهذان المتغيران تابعان بدورهما لمتغييرين آخرين هما: الإنضباط المجتمعي. وتجذر ثقافة المشاركة. وبهذا يمكن القول وفق منطق ترابط المسببات أن مستوى تطور الذهنية السياسية تابع لمتغيري: الإنضباط المجتمعي. وتكريس ثقافة المشاركة؛ لأنهما محققين لشرطي التمكن المعرفي، وتنمية النضج السياسي. ويمكن أن نضيف إلى هذه المتغيرات مؤثرا موضوعيا هو البيئة. والذي يعطي هذه المتغيرات قيمة تحليلية كآلية لقياس تطور الذهنية السياسية هو عدم حيادها. فهي ذات إيحاءات مؤثرة في توجيه أنماط الفعل والتفكير. حتى دون إدراك المتأثرين بها. وتنتج بتفاعلها مزيجا نفسيا مركبا. إذا لم يكن من خصائصها مجتمعة، فمن خصائص بعضها. وهي بذلك إما أن تشكل "محفزات" للتطور أو "عوازل" تحد منه. وعلى ذلك يتناسب مستوى تطور الذهنية السياسية للمجتمع تبعا لأيهما أكثر حضورا في بنيته. هل هي المحفزات؟ أم العوازل؟ ومن نافل القول التأكيد على أن هذه المتغيرات لن تكون محفزة لتطور الذهنية السياسية إلا عندما تترك الفوضى مكانها للإنضباط. وتترك الأحادية السياسية مكانها للمشاركة. ليكون السؤال: أيهما أكثر حضورا في البنية الإجتماعية الموريتانية؟ الإنضباط والمشاركة؟ أم الفوضى والأحادية السياسية؟ سنعتمد في محاولتنا الإجابة عن هذا السؤال مقاربة ترتكز على تحليل عينة خاصة من الظواهر الإجتماعية الموريتانية الهامشية في نظر البعض. وذلك بدمجها في سياق من واقعية الفكر؛ بمعنى أننا سنحاول القيام بتشريح تحليلي لدلالات ظواهر قد تكون في نظر البعض نمطية، أو موغلة في الهامشية. لكنها رغم تجاوزها تحليليا تنحسر عن تأثير يجاري في قوته تأثير الظواهر المعدودة بداهة من المؤثرات. وهذا ليس مصادفة ولا هو بمستغرب؛ لأن سر القوة التأثيرية لهذه الظواهر كامن في تجاوزيتها وعدم التفطن لها. فوحدها الظواهر الهامشية المتجاوزة تحليليا تتحكم في سلوكنا وتصوغ إدراكنا دون أن نأخذ حذرنا منها. ولنرى الآن ما مدى تأثير هذه الظواهر في الحالة الموريتانية. تكشف لنا القراءة التركيبية لعناصر الإنسان والثقافة والمحيط في موريتانيا، تميز الموريتاني بخاصيتين اكتسبهما بتأثير من بيئته الصحراوية المفتوحة، وثقافته الشفهية؛ التعلق الشديد بإمكانية الفعل والحركة دون حدود أو قيود. والنزوع إلى عدم الرضوخ لسلطة الضبط إلا عند الإحساس بالتهديد الخطير لوجوده. وهي ميزات صاغت رؤية خاصة لدى الإنسان الموريتاني تجاه منظومات الضبط. التي أضحى يعتبرها تقييدا لحرية اكتسبها عبر سنين من العيش خارج نطاق هذه المنظومات. نمت لديه خلالها نزعة جامحة نحو الإستقلالية المطلقة في مواجهة التنظيم. وصلت في بعض حالاتها إلى نمط من العيش أقرب إلى الفوضى منه إلى أي شيء آخر على حد تعبير أحد قادة الإستعمار الفرنسي هو الرائد "غلير"[16]. ولا تخفى دلالة المصطلح "فوضى" المستخدم من قبل الرائد؛ فهو نقيض الإنضباط والخضوع للآليات التنظيمية التي كانت المنظومة الإستعمارية تريد إخضاع المجتمع لها. ومما يؤكد ذلك ما ذهب إليه "يوسف مقلد" حين اعتبر أن أهل موريتانيا: "ظلوا عصاة على فرنسا طيلة حكمها لموريتانيا"[17] في إشارة منه إلى عدم رضوخهم لآلياتها الضبطية. وهذا النفور من الآليات الإستعمارية الضابطة. إضافة إلى الخصائص التي اكتسبها المجتمع من بيئته الصحراوية. كانا وراء تنامي عزلة مجتمعية إرادية ـ سبق وأشرنا إليها ـ في مواجهة مدنية المستعمر. جسدتها واقعيا نزعة استقلالية جامحة لدى المجتمع الموريتاني. تمثلت أبرز تجلياتها في ابتعاد الموريتانيين تاريخيا عن المراكز الحضرية، وخضوع اجتماعهم لنمط مبالغ فيه من التقري الفوضوي لا تفسره إلا الخشية من الخضوع لأي ضوابط إلا تلك التي تقتضيها ثقافتهم الدينية التقليدية. ولا يفوتنا أن نشير كتأكيد لما سبق إلى المصطلح الذي عرفت به المنطقة في بعض فترات تاريخها "الأرض السائبة"، والذي يعطي إشارة واضحة على قلة التنظيم. بل الإنفلات. وهذا يمنحنا إمكانية التقرير بأننا أمام بنية إجتماعية أدمنت عبر تاريخها الطويل العيش ضمن نمط من قلة التنظيم جعلها تميل في تفاعلاتها إلى عدم التقييد والإنضباط. ولا تقف الصورة عند هذا الحد. بل تتجاوزه إلى ما بعد رحيل فرنسا وقيام الدولة الوطنية. حيث لم يتغير نمط العيش كثيرا. فقد بقيت غالبية المجتمع على نفس الحال. غارقة في بعدها الإرادي عن المراكز الحضرية، في نفور واضح من آلياتها التنظيمية. ولم يرغمها على التخلي عن نزعة النفور تلك إلا البيئة. فتماما كما كانت سببا في تعلقه بالفعل دون حدود أو قيود. كانت البيئة كذلك سببا في رضوخ الموريتاني لمقتضيات الإنضباط الحضري قسرا حين أرغمته موجة الجفاف الشديدة التي ضربت البلاد العام 1975 على الإنضمام إلى مراكز الضبط الحضرية، بعد أن استشعر خطرا شديدا يتهدد وجوده. لكن رغم ذلك، ولأنه لم يأتي نتاجا لتغير في العقلية. إنما استجابة لتحد موضوعي مستقل عن إرادة الإنسان الموريتاني. جاء هذا الانزياح باتجاه مراكز الضبط الحضرية غير منظم ولا منفصل في مظاهره عن الممارسات التي تجذرت على مر السنين. فحل التمدن الفوضوي محل التقري الفوضوي. وأعاد المجتمع إنتاج استقلاليته من القيود داخل أحزمة عشوائية محيطة بالمراكز الحضرية الكبرى لا تخضع في بنائها ولا في تخطيطها لأي ضوابط إلا تلك التي تواضع عليها السكان. وقد كان لذلك نتائج بالغة الخطورة على التمكن المعرفي. فقد خسر جيل بكامله ــ ما قبل 1975 ــ فرصة التمكن المعرفي التي كان من الممكن أن يتيحها الإنضباط الحضري في فترة الإستعمار والسنوات الخمس عشرة الأولى من عمر الدولة المستقلة، بسبب نفوره الشديد من آليات الضبط والتقييد. ثم خسر جل الجيل التالي له نفس الفرصة بسبب الفوضى التي واكبت انزياحه باتجاه المراكز الحضرية. والنتيجة بنية إجتماعية تعاني خللا كبيرا على مستوى التمكن المعرفي، أعاق تشكل طبقة متوسطة قادرة على تغذية هذه البنية بالآليات اللازمة لمواكبة الانسياب الزمني للدولة، من خلال وضعها لقواعد موضوعية تحصر وسائل تذويب التناقضات المجتمعية في عملية التدافع داخل البنية التحتية لتحول دون تحولها إلى البنية الفوقية. وإذا تجاوزنا إلى المشاركة سنجد أنها لم تختلف من حيث الحال العام عن التمكن المعرفي. حيث كانت معطلة في الفترة من 1978 وحتى 1991[18] . أما الفترات التي لم تعطل فيها فقد شابها ضعف شديد على مستوى الأداء؛ لأنها لم تخرج في أحسن حالاتها عن رمزية لحظة الإقتراع. فنتيجة لضعف التمكن المعرفي، الذي أنتج بدوره ضعفا على مستوى بناء وتنمية الوعي المجتمعي بقيمة المشاركة كآلية مؤثرة في مجال التغيير السياسي. جاءت هذه المشاركة محكومة وموجهة بحسابات ضيقة. أفرغتها من معناها الحقيقي كقيمة الهدف من ورائها تكريس ثقافة التنافس بين برامج ورؤى سياسية، هدفها النهوض بالمجتمع، عن طريق التسيير التضامني لتناقضاته بشكل يبتعد به عن كل مظاهر الإحتقان والتأزيم السياسي. ورهنتها لحسابات قبلية وجهوية. بل أكثر من ذلك شخصية في بعض الحالات. مما أضفى على العملية السياسية برمتها نوعا من الشخصنة. تجلت أبرز انعكاساتها على الذهنية السياسية الموريتانية ــ مثلا ــ في اختزال الأحزاب التي تمثل أهم وسائل المشاركة السياسية في أسماء رؤسائها. ولا أدل على ذلك من أن الموريتاني لا يكاد يعرف من برامج الحزب سوى أنه حزب فلان؛ والنتيجة مشاركة سياسية لم تتجاوز في تجسيدها الواقعي عملية الإقتراع. وهذه الأخيرة لم تتجاوز في حقيقتها أنها عملية إضفاء لشرعية الإنتخاب على بنى فوقية لا تمثل انعكاسا لوعي وثقافة المجتمع. وهو ما يمكن معه الحديث عن مجتمع مستقيل عن الفعل السياسي الناضج والمؤثر على خيارات السلطة في موريتاني. واللافت للإنتباه ليس هذه الإستقالة المجتمعية. بل اللافت لدى المراقبين هو وجود ــ غالبا ــ توجه عام خارج اللحظات الإنتخابية داخل المجتمع يميل إلى الإعتبار أن النظام أيا كان. لا يمثل إلا تصورات قلة لما يفترض أن يؤسس قواعد الحكم. أما في اللحظات الإنتخابية فغالبا ما يكون من اليسير على هذا النظام الحصول على أغلبية مريحة يحكم بها، وليست بالضرورة ناتجة عن التزوير. وهذا ما يجعل المجتمع الموريتاني من أبسط وأعقد المجتمعات تحليليا. وهكذا أصبح بإمكاننا بعد ما استعراضنا تحليليا بعض وقائع الإجتماع السياسي الموريتاني القول تأسيسا على ذلك: إن الإنضباط المجتمعي هو الذي ترك مكانه لقلة التنظيم في جل فترات تاريخ الإجتماع السياسي الموريتاني. وأن الأحادية السياسية ظلت دائما مهيمنة على المشهد السياسي الموريتاني رغم تبني الإقتراع كآلية اختيار. وبالتالي فإن عوازل تطور الذهنية السياسية كانت أكثر حضورا في البنية الإجتماعية الموريتانية من محفزاتها. وهو ما أدى بشكل أو بآخر إلى عدم مواكبة هذه الذهنية للإنسياب الزمني للدولة. وبالتالي ميل المجتمع في موريتانيا فطريا نحو تجسيد السلطة حتى في ظل القابلية للإختيار. إذا ليس هنالك تناغم بين البنية التحتية والفوقية في موريتانيا. وليس هنالك انسجام بين الإنسياب الزمني للدولة والنضج السياسي للمجتمع. والنتيجة بنية تحتية ثابتة وتاريخ سياسي متغير. أديا إلى تحول التدافع من البنية التحتية إلى البنية الفوقية. وحصره في تنافسية حول المواقع بين أطراف هي الأخرى ثابتة، وقلما تتغذى بأفراد من خارج نطاقها. ليبقى المثقفون الساعون للإصلاح خارج دورة الحراك المفضي إلى اختراق مجسم السلطة.
1ـ جان وليام لابيار، السلطة السياسية، ترجمة الياس حنا الياس، ط 2 (بيروت: منشورات اعويدات، 1977)، ص 74. 2ـ المختار ولد داداه، موريتانيا على درب التحديات (باريس: مطبعة كارتالا، 2006). 3ـ راجع: لابيار، السلطة السياسية، ص 51. 4أنظر المواد 1، 2، 3 من دستور 1959 في: محمد يوسف مقلد، موريتانيا الحديثة أو العرب البيض في إفريقيا السوداء،ط 1 (لبنان: دار الكتاب للطباعة والنشر، 1960)، ص 201 و 202 5ـ أنظر المواد 5، 6 وديباجة دستور 1991 في: النصوص المتعلقة بالمؤسسات الديمقراطية واحريات العامة (انواكشوط: مركز البحوث القانونية والإقتصادية، 1996)، ص 6 و 7. 6ـ ولد داداه، موريتانيا على درب التحديات،ص 343. 7ـ مقلد، موريتانيا المعاصرة، ص 245 وما بعدها. 8ـ للمزيد حول تعديل 1965 راجع: محمد الأمين ولد سيدي باب، مظاهر المشاركة السياسية في موريتانيا (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005)، ص 478. 9ـ محمد دده، النظام السياسي الموريتاني وإشكالية الشرعية، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 29 (شتاء 2001)، ص 57. 10ـ الإشارة هنا هي إلى المؤتمر الذي عقد في مدينة لابول 1989 والذي فرضت فيه فرنسا علي الدول الخاضعة لنفوذها في أفريقيا القيام بإصلاحات سياسية، ولتأكيد ذلك التوجه ربطت مساعداتها، بشروع الدول الأفريقية المتلقية لتلك المساعدات بالدخول في إجراء إصلاحات ديمقراطية. 11المقصود بالموالاة هنا ليس المصطلح السياسي الذي يطلق عادة على الأغلبية الحاكمة في بلد ما. إنما بالمقصود بها هو أن هنالك ميل من الموريتانيين إلى عدم معارضة الحاكم أيا كان وكيف ما جاء. 12 برهان غليون، مجتمع النخبة، ط 1 (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1986). 13ـ ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة الزواوي بغوره، ط 1 (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2003)، ص 179. 14محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، كتاب في جريدة، العدد 95 (5 تموز 2006)، ص 8. 15 للمزيد حول بناء ثقافة المشاركة راجع: ـ حسين علوان، إشكالية بناء الثقافة المشاركة في الوطن العربي، (بيروت المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2009). 16ـ الرائد غلير، ملخص عن سكان موريتانيا، مجلة الوحدات الإستعمارية(1925). 17مقلد، موريتانيا المعاصرة، ص 179. 18 دده، النظام السياسي الموريتاني وإشكالية الشرعية، ص: 58 * نشر في العدد الثالث من مجلة دراسات موريتانية (مارس 2014)التي يصدرها المركز
|