قانون المجالس الجهوية في ضوء التجارب السابقة (ورشة)

altجاء إقرار البرلمان الموريتاني في يناير الماضي لقانون المجالس الجهوية ليعيد التذكير بقضية اللامركزية في موريتانيا والحاجة إلى نقل المزيد من السلطات إلى الجهات المحلية سعيا إلى تعزيز الديمقراطية وإرساء التنمية وتقريب الخدمات من المواطنين.

ويشكل هذا القانون محطة من عدة محطات تاريخية للامركزية في البلد أشهرها التجربة البلدية التي بدأت سنة 86، وإلى جانبها هناك تجربتان وقعتا في الحكم المدني الأول هما تجربة البلديات الحضرية والريفية (1963-1968) وتجربة المجالس الجهوية المعينة (1968-1978).

كما أن هناك محاولة لم تر النور وهي "مسودة مشروع قانون مدونة المجموعات الإقليمية – 3/بريل 2008" التي أعدت في أيام حكم الرئيس السابق سيد محمد ولد الشيخ عبد الله.

في هذه الورقة التي هي حصيلة ورشة نظمها المركز ترصد مقارنة لهذا القانون الحالي مع مسودة مشروع قانون 2008 وتقويما لتجربة البلدية وانعكاساتها المحتملة على المجالس الجهوية المستحدثة.

وشارك في الورشة الخبيران د. يحي ولدكبد، وزير اللامركزية في حكومة ولد الشيخ عبد الله ومعد مسودة مشروع قانون2008، وكانت مداخلته عن المقارنة بين النصين (هذه المسودة وقانون 2018) والدكتور محمد ولد كبير الأكاديمي المختص في اللامركزية وكانت مداخلته عن تقويم تجربة البلديات واستشراف مستقبل المجالس الجهوية.

أولا: مدخل تاريخي

ينبه الدكتور يحيى ولد كبد على ضرورة العودة لتجربة اللامركزية في موريتانيا منذ بدايتها لفهم أعمق لمسارها، ذلك أن محاولات اللامركزية بدأت مع الاستقلال، بل وحتي قبله، بهدف تقريب الخدمات من المواطنين ووقع الخيار أولا على البلديات (1963-1961) التي تمت على ثلاثة أصناف:

أ: بلديات حضرية منتخبة ،نظريا، في المدن الكبرى مثل أطار وكيهيدي وروصو

ب: بلديات نموذجية أو انتقالية معينة في مدن أخرى مثل نواذيبو ولعيون وفديرك، ويرأسها ممثل دولة بمثابة أو ما يعرف حينئذ، بمفوض الدولة

ج: ريفيات: في المناطق الريفية التي يصل سكانها إلى 1500 ساكن، ومجالسها منتخبة أوعلي الأصح، منتدبة من طرف المكونات الاجتماعية، ويرأسها الحاكم.

لكن هذه التجربة –والكلام لود كبد- لم تصمد طويلا لسببين:

أ: ما سببته من إثارة الخلافات القبلية والعشائرية

ب: نقص الوسائل المالية عند الدولة الناشئة.

ولهذه الأسباب أصدرت الحكومة إصلاحا إداريا سنة 1968 اعتمد مجالس جهوية في الولايات وألغى البلديات، وقد تبنى القانون مبدئيا انتخاب أعضاء هذه المجالس ولكنه تضمن ترتيبات انتقالية يتم بموجبها تعيينهم ،ريثما تكمل الظروف لانتخابها، وهو ما استمر عمليا طيلة وجود هذه المجالس.

كما كانت رئاسة هذه المجالس بيد الوالي، في أغلب الأحيان، وكان هو المسؤول عن تنفيذ مداولاتها.

وبرغم ما شاب هذه المجالس من نواقص فإن الدكتور يحي ولد كبد يرى أنها تتوفر نظريا على المعايير التي تمكن من توصيفها حسب بعض المختصين، بأنها هيئات لامركزية وهي:

الاستقلال المالي والإداري

التمتع بسلطة المداولة في الشأن المحلي

أما الشرط الثالث الذي يطرحه بعض خبراء اللا مركزية وهو الانتخاب فلم يتحقق في هذه المجالس كونها كانت معينة من قبل الحزب الوحيد الحاكم في تلك الفترة.

ثانيا: مقارنة قانون 2018 و مشروع قانون 2008

توضح المقارنة بين النصين في منطلقها –كما يرى الدكتور يحيى ولد كبد- وجود مستويات كبيرة من التشابه وتحديدا في ثلاث نقاط كبرى:

أ: اعتمادهما لمستويين لا مركزيين هما البلدية والمجالس الجهوية وذلك لأول مرة في موريتانيا حيث كان في السابق يوجد مستوى واحد هو البلديات (1963-1968) أو المجالس الجهوية (1968-1986) ثم البلديات (1986-2018)

(وينبغي الإشارة هنا إلى أن دول الجوار يوجد بها مستويات أكثر ففي المغرب يوجد أربع مستويات وهي "المقاطعة، والإقليم، والجهة، والبلدية: وفي السنغال ثلاثة "المقاطعة، البلدية، المجموعة الريفية).

ب: اكتمال أركان اللامركزية المطلوبة عند فقهاء القانون الإداري وهما الشخصية المعنوية و التداول في الشأن المحلي بحرية والاستقلال المالي، فكلا النصين يمنح المجالس الجهوية حق المداولة في الشأن المحلي، وكلاهما يعطيها استقلالا ماليا وإداريا وكذا الشخصية المعنوية.

ج: أن المجال العام للصلاحيات التي يعطيها النصان للمجالس الجهوية هو نفسه مع استثناءات طفيفة نبينها لاحقا،

د: ومن أوجه التشابه بين النصين عدم تحديد نسبة الإعانة التي تقدمها الدولة وهي ثغرة كبيرة يرى ولد كبد أنه كان يمكن أن تسد على غرار ما فعلته بعض الدول في المحيط الإفريقي فمثلا رواندا تخصص للمجالس الجهوية 10% من الميزانية العامة وفي المغرب يخصص لكل جهة %18 من ضريبة القيمة المضافة على الخدمات والسلع المنتجة داخلها.

أما نقاط الاختلاف بين القانونين فهي:

أ: من حيث تعزيز روح ومبادئ اللامركزية

يرى الدكتور يحي ولد كبد أن "مشروع قانون 2008 تميز عن القانون الحالي بوضع أسس عامة للحكامة المحلية تمثلت في تكريس حرية الإدارة وتبيين حقوق وواجبات الحكم المحلي، ومأسسة العلاقة التعاقدية بين الحكم المركزي والحكم المحلي، وكذلك مأسسة الرقابة الأهلية، وتعزيز صلاحيات البلدية، إلخ.

ب: من حيث الاختصاصات:

مع أن المجال العام لاختصاصات المجالس الجهوية في النصين واحد كما تقدم إلا أن مشروع قانون 2008 يتبنى تفرد السلطات المحلية في مباشرة سلطتها في هذا المجال ولذلك يستخدم عبارة "إعداد" المشاريع بينما يستخدم قانون 2018 "المشاركة" في الإعداد، ويتضح الفرق جليا حين نتذكر أن التشارك في الصلاحية يفتح الباب للتصادم الذي ستكون نتيجته لصالح الجهة الأعلى وهو الحكم المركزي و ممثله المحلي (الوالي أو ممثل الدولة).

وحتى في المجال العام للصلاحيات هناك فرق آخر وهو أن مشروع قانون 2008 أعطى المجالس الجهوية صلاحيات في مجال العمران والإسكان في حين حذفها قانون 2018 باستثناء ما ورد في المادة 5 وهو غير كاف حسب تقويم الدكتور ولد كبد دائما.

ج: من حيث الوصاية:

يرى ولد كبد أن القانون المنظم للجهة يعطي لجهة الوصاية رقابة تقليدية شديدة على المجالس الجهوية، لدرجة أنه يعطي لممثل الدولة حق الاطلاع -وأحيانا الموافقة الصريحة- على معظم قرارات هذه المجالس إن لم نقل كلها بحيث لم يترك للمجلس هامش حرية يذكر.

ويرى أن ذلك يجعل رقابة جهة الوصاية رقابةَ سلطةٍ تقديريةٍ بطريقة قبْلية وذلك يخالف مبدأ حرية التدبير الذي ورد في مشروع قانون 2008 ولم يرد في القانون الأخير لكنه ورد بشكل صريح في التعديلات الدستورية الأخيرة[1] فهذا المبدأ يقتضي أن تكون الرقابة بعدية وتكون رقابة شرعية.

ويقول ولد كبد أنه كان يتوقع أن يعترض المجلس الدستوري على ما هذا النمط من الرقابة المخالف لمقتضى الدستور.

وذكر ولد كبد في هذا الصدد أنه من خلال اطلاعه على التجارب الإفريقية في المحيط وجد أن الدول التي تبنت مبدأ حرية التدبير تركت للمحاكم الإدارية الرقابة البعدية على قرارات المجالس المحلية لضمان احترامها للقوانين بحيث لا يمكن لممثل الدولة رفض أي قرار تتخذه الهيئات المحلية بل يكتفي بإحالتها للقاضي الإداري مع طلب وقف التنفيذ في حالات خاصة جدا وللقاضي الحرية في قبولها أورفضها.

د: من حيث الانتخاب

يرى ولد كبد أن القانون المنظم للجهة الذي صدر أخيرا تقدم إلي حد ما من الناحية الديمقراطية على مشروع قانون 2008 بأنه جعل أعضاء المجالس الجهوية منتخبين منتخبين انتخابا مباشرا بينما كان مشروع 2008 يقترح الانتخاب غير المباشر ، و هو ما يعني الاعتراف بالولاية كجهة سياسية وإيجاد فاعلين سياسيين محليين على المستوى الولائي بعد أن كانوا محصورين محليا في المستوى البلدي.

إلا أن هذا الانتخاب له محاذير منها أنه يجعل الولاية الكبيرة خاضعة لأغلبية قد تكون غير حقيقية وإنما هي نتيجة نظام الاقتراع الذي تهيمن عليه اللوائح التي تأتي في المقدمة .

ثم إن تمتع هذا المجلس المنتخب باستقلالية التدبير ستضيف أعباء لأنه ستكون لديه موظفين كما للدولة موظفين، هذا ما لم تلجأ الدولة إلى بعض الحلول لمشكلة تعدد الموظفين مثل ما فعلت مالي حين وضعت موظفي الدولة في كل جهة تحت تصرف مجلسها، أو حلول أخرى مثل أن تكون الجهة تكتفي باكتتاب خبراء استشاريين يقدمون لها المشورة ويدرسون مشاريع المداولات دون اللجوء إلي اكتتاب عمالة كبيرة ، علي أن يعهد للمصالح الإقليمية للدولة بتنفيذها وفقا لتعاقد مع تلك المصالح ينفذ تحت رعاية المجالس الجهوية.

ه: الجهاز التنفيذي

يختلف النصان أيضا في الجهاز التنفيذي للمجلس الجهوي ففي حين كان مشروع قانون 2008 يسنده للوالي فإن قانون 2018 يكيل هذه المهمة إلى رئيس ينتمي للمجلس نفسه انتخب معه كما ينتخب العمدة مع المستشارين البلديين.

ثالثا: التجربة البلدية في أفق إقرار المجالس الجهوية

يرى الدكتور محمد ولد الكبير أن حصيلة التجربة البلدية في قيامها بالمهام المسندة لها كانت باهتة جدا، إلا أن ذلك هو المتوقع نتيجة الاختلال الواقع بين ما أسند لها من صلاحيات وما أعطي لها من موارد مالية وبشرية

ثم إن كل التعديلات القانونية التي أدخلت على قانون البلديات ركزت على طريقة اختيار وتشكيل المجلس التنفيذي و أهملت الجوانب المتعلقة بمهام وموارد البلدية والسبب هو التسييس المفرط للانتخابات البلدية وعدم وجود جاذبية سياسية في هذه الجوانب الأخيرة

وقد كان هذا التسييس المفرط من أسوء ما عانت منه التجربة منذ قيامها، كما عانت من عقلية المنتخب البلدي وخاصة العمدة التي تختزل البلدية في أداة للانتفاع الشخصي ومكافئة الحلف السياسي بالوظائف فغاب السعي لعمل بلدي يعبئ الطاقات المحلية ويوظف ما تقدمه الدولة من دعم مالي وفني وبشري

وبمقابل هذه الجوانب السلبية هناك جوانب إيجابية تدل على التقبل الاجتماعي للتجربة البلدية إن لم نقل بداية تجذرها ومنها التراكم التنظيمي المترتب على التجديد المتكرر لهذه المجالس، وتطور العقلية الاجتماعية في التعامل مع المؤسسة البلدية والتعاطي الإيجابي مع التجاذبات المتربة على اختيار أجهزتها وأدائها لمهامها والوعي بمكانتها كما يظهر في انتظار خدماتها وانتقاد أدائها والجدل الاجتماعي حول ترهلها وضرورة تحسن أدائها.

انطلاقا من ذلك يمكن إبداء الملاحظات التالية التي تعلق بعضها بقانون المنظم للمجالس الجهوية، ويتعلق بعضها بأفق التجربة البلدية في ظل اعتماد التجربة الجهوية:

1: أن قانون المجالس الجهوية المقر أخيرا نص طموح متقدم على الواقع أو لا يأخذ في الاعتبار بعض جوانب هذه الواقع الذي أنتجته التجربة البلدية من حيث غياب الخبرة وقلة الكادر الكفؤ وقلة الموارد المالية وهذا ما يجعل المجالس الجهوية ستواجه نفس المعوقات.

2: أن إقامة المجالس الجهوية سيكون لها على المدى المتوسط والطويل بعض الإيجابيات التي قد يكون أغلبها غير مرتبط بشكل مباشر بنجاحها أو فشلها في القيام بالمهام المسندة لها في القانون كما وقع للبلديات.

3: إرساء التجربة الجهوية و إلغاء مجلس الشيوخ –كما يرى الدكتور ولد كبير- ستكون له انعكاسات إيجابية تتمثل في الحد من التسييس المفرط للمجالس البلدية خاصة في البلديات الصغيرة والمتوسطة وهو ما قد يدفع إلى خلق وعي متدرج بضرورة اختيار الأكفأ لتقلد مهام الجهاز التنفيذي والرقابة الشعبية على أدائه

4: سيؤدي اعتماد التجربة الجهوية إلى التسريع بتطوير الإطار القانوني للمصادر البشرية للجماعات المحلية عن طريق خلق وظيفة عمومية محلية تضمن انتقاء وتحفيز الكادر البشري.

5: من شأن إرساء المجالس البلدية كذلك أن تساعد المجالس البلدية إذا برزت مؤسسات للتعاون بين المستويين الجهوي والبلدي يوكل لها القيام بالاختصاصات المشتركة.

6: كان هناك تخوف من أن يقوم المشرع باقتطاع صلاحيات أو موارد من البلدية لصالح المجالس الجهوية، لكن عند صدور القانون تبين أنه لم يمس من مهام وموارد البلدية، وأن أغلب الاختصاصات المسندة للمجالس البلدية مقتطعة من الدولة، ومواردها ستكون تحويلات من صناديق سيتم إنشاؤها خصيصا لهذا الغرض.

7: مسطرة الوصاية في القانون الجديد هي تقريبا نفسها الممارسة في المجالس البلدية وهو أمر طبيعي في ظل التخوف الذي يصاحب دائما إقامة تجربة جديدة بهذا الحجم، ونظرا إلى وضع القضاء الإداري والمالي، وانعدام قضاة أكفاء متخصصين، فلا يمكن المجازفة بإسناد الرقابة على أعمال المجالس المحلية للقضاء، قبل إصلاح قضائي جديد يسمح للغرف الإدارية في محاكم الولايات بالنظر في دعوى الإلغاء أو الشطط في استعمال السلطة التي هي في الوقت الراهن من اختصاص الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا.

8: المسطرة المعتمدة في اختيار وتشكيل المجالس هي نفسها المعتمدة في اختيار وتشكيل المجالس البلدية، وقد كان أحرى بالمشرع الإحالة إلى النص الذي سبقه تفاديا للتكرار والاقتصار على تقنين الفقرات المحدودة جدا التي تميز المجالس في هذا الجانب.

9: دور سلطة الوصاية فيما يخص عزل رئيس المجلس البلدي والجهوي فيه إشكال قانوني حيث ان عزله لا يمكن أن يتم إلا في جلسة يستدعي لها الوزير المكلف باللامركزية ولا تكون فعلية إلا بعد إصداره لها في شكل مرسوم فهل هذه السلطة هي سلطة تقديرية مطلقة أم مقيدة بحيث تكون جهة الوصاية ملزَمة باتخاذ الإجراء المناسب عند توفر الشروط القانونية المسببة له، ورأينا –والكلام للدكتور ولد الكبير- أن يتم تقييد هذه السلطة تفاديا لأي شطط قد يقود إلى تعطيل أو مصادرة إرادة المجالس.

10: من وقع التجربة البلدية هناك ثغرتان قانونيتان في القانون الجديد لم يتم تلافيهما الأولى هي تفادي التنصيص على إمكانية إقالة المستشار من طرف حزبه عندما يتبنى خيارات تعارض توجهات حزبه ويرفض في نفس الوقت تقديم استقالته، والثانية تتعلق باستبدال المستشار الذي يشغر مقعده لأي سبب عن طريق أول مرشح يأتي بعد آخر مستشار حصل على تزكية الناخب في لائحة حزبه حيث نعتقد أن إدخال هذا المرشح الذي لم يحصل على ثقة الناخب يمكن الطعن في شرعيته، فالمجالس البلدية والجهوية ليست مثل النواب الذين ينتخب مع كل واحد منهم خلف له.

-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

[1]نص المادة 98 جديدة من الدستور: إن المجالس الجهوية تدار بصورة حرة من قبل مجالس منتخبة وفق الشروط التي ينص عليها القانون.

 

البحث

آخر الإصدارات

إعلان

المركز على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox

وحدات المركز

وحدات