موريتانيا – الهوية القلقة : رؤية استراتيجية لمستقبل التعايش

د.البكاي ولد عبد المالك (يمين الصورة)

"موريتانيا – الهوية القلقة : رؤية استراتيجية لمستقبل التعايش"

ورقة بحثية قدمها الدكتور البكاي ولد عبد المالك للمشاركة بها في ندوة مناقشة كتاب "اللغة العربية و الهوية في موريتانيا " التي نظمها المركز يوم السبت 8-8-2015 بفندق إيمان بالعاصة انواكشوط.

في ظل اشتداد المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب وتأثير العولمة الثقافية خاصة وما نجم عنه من تفتيت لوحدة الدولة القومية ودك "حصونها" ثقافيا بالقضاء على الثقافة الأصلية أو المهيمنة وإفساح المجال للثقافات الفرعية ، وفي ظل تفجر الدعاوى المطالبة بالانفصال وإعادة موضعة الجماعات ضمن حدود جديدة تتنكر للتاريخ ولا تعترف بالجغرافيا ، تبدو الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإعادة التفكير في مفهوم الهوية ومراجعة موقفنا من ذاتنا ومن الآخر من حولنا في ضوء المعطيات الجديدة والخريطة الجديدة للعالم التي باتت تتشكل في كل لحظة لكي نحافظ على كياننا من الزوال وأن نساهم في ذات الوقت في صناعة التغيير الذي يناسبنا من موقع الفعل لا من موقع رد الفعل . فهل نحن قادرون على صناعة التغيير الذي يناسبنا ؟

الخطة :

المحور الأول - الهوية وإشكالية التنوع الثقافيفي موريتانيا

1- نماذج من التعايش في مرحلة ما قبل الدولة

2- أسباب مشكلة التعايش في الدولة الوطنية

المحور الثاني : عوامل التفكك ومحددات الهوية القلقة

1- النزعة الاستبعادية والغيرية الثقافية الجذرية

2- أيديولوجيا الانتكاس والارتكاس

3- الوعي الطبقي

المحور الثالث : عوامل الاندماج ومحددات الهوية الواثقة

1- الهوية الجامعة

2- المواطنة في الدولة التعددية

3- دولة القانون

الخاتمة

موريتانيا – الهوية القلقة : رؤية استراتيجية لمستقبل التعايش

مقدمة :

في ظل اشتداد المشاكلة الميتافيزيقية للكوكب وتأثير العولمة الثقافية خاصة وما نجم عنه من تفتيت لوحدة الدولة القومية ودك "حصونها" ثقافيا بالقضاء على الثقافة الأصلية أو المهيمنة وإفساح المجال للثقافات الفرعية ، وفي ظل تفجر الدعاوى المطالبة بالانفصال وإعادة موضعة الجماعات ضمن حدود جديدة تتنكر للتاريخ ولا تعترف بالجغرافيا ، تبدو الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإعادة التفكير في مفهوم الهوية ومراجعة موقفنا من ذاتنا ومن الآخر من حولنا في ضوء المعطيات الجديدة والخريطة الجديدة للعالم التي باتت تتشكل في كل لحظة لكي نحافظ على كياننا من الزوال وأن نساهم في ذات الوقت في صناعة التغيير الذي يناسبنا من موقع الفعل لا من موقع رد الفعل . فهل نحن قادرون على صناعة التغيير الذي يناسبنا ؟

ذلك ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الورقة من خلال محاور ثلاثة : خصصنا الأول منها للبحث في الهوية وإشكالية التنوع الثقافي في موريتانيا فبحثنا أولا في مفهوم الهوية بصفة عامة وضرورة تكييفه مع المعطيات الجديدة التي تفرضها العولمة الثقافية. وتناولنا في هذا المحور كذلك تاريخ التواجد المدني للأجناس البشرية في هذا الصقع من العالم وأصناف التفاعل بينها وآثاره المادية والرمزية قبل قيام الدولة الوطنية وكذلك مختلف المشكلات التي اقترنت به في ظل الدولة الوطنية ودور العوامل الداخلية والخارجية في ذلك .

في المحور الثاني حاولنا البحث في موضوع الهوية في موريتانيا من منظور مزدوج استاتيكي وديناميكي : حاولنا أولا البحث في المفهوم الاستاتيكي للهوية وهو ما أسميناه بـ "الهوية القلقة" وهي إشارة إلى المفهوم السلبي للهوية في موريتانيا بمحدداتها المختلفة وأبرزها الانكفاء على الذات الذي يظهر إما من خلال النزعة الاستبعادية القائمة على التصور الأحادي للهوية أو من خلال الخصوصية الثقافية الضيقة أوالغيرية الثقافية الجذرية والتي لا تقبل التفتيت والذوبان .وقد استعرضنا في هذا المحور كذلك الأنماط الخاصة من الأيديولوجيا التي تقترن عادة بهذا النمط من الهوية ( أيديولوجيا الانتكاس والارتكاس والوعي الطبقي).

أما المحور الأخير فقد خصصناه للبحث في المفهوم الديناميكي للهوية وهو ما أسميناه بـ "الهوية الواثقة" وهو في نظرنا مفهوم إيجابي وله أبعاد استراتيجية لأنه يستجيب لمقتضيات العصر من جهة ويضمن تماسك المجموعة الوطنية وصمودها أمام النزعات الانفصالية سواء أكان مصدرها الداخل أو الخارج فحاولنا فيه أولا أن نبحث في طبيعة الهوية الجامعة وفي شروطها وفي المواطنة باعتبارها أبرز السمات المميزة للنظام السياسي العادل وخاصة في الدولة التعددية. وقد حاولنا في كل مرة اقتراح بعض الحلول العملية الثقافية والاقتصادية والتربوية .

المحور الأول - الهوية وإشكالية التنوع الثقافي في موريتانيا :

1 - مفهوم الهوية:

الهوية (Identité) بالفرنسية و(Identitas) باللاتينية هي كلمة مشتقة من أصل لاتيني هو (Idem) ويطلق بمعنيين : الأول هو "الشيء نفسه"، والثاني "الشيء الذي لا يختلف في شيء عن شيء آخر"([1]). ومن هذا الأصل أيضا اشتقت كلمة (Identicus) وتعني "الشبيه"و"النظير" والشيء نفسه وعكسه "المغاير" و"المختلف".

أما في لغتنا العربية فإن الهُوية بضم الهاء تشير، بالإضافة إلى الماهية، إلى ضمير الغائب "هو" ، والذي يقتضي في نظرنا الخروج من دائرة الذات ومن عالم الذاتية الضيقة إلى عالم الآخر([2]).

ومن هنا فإن هذه الكلمة تحيل في اشتقاقها اللغوي إلى "الغيرية" باعتبارها شرطا ضروريا من شروط إمكان تصورها ووجودهالذلك يستحيل "الفصل بن الهوية والغيرية عل مستوى التحديد اللغوي"([3]) .

وبناءا على ذلك فإن الهوية من الناحية اللغوية والاصطلاحية تتجذر في حقل التنوع والاختلاف، وتقتضى نوعا من الانتقال السلس والتواصل بين قطب المغايرة وقطب المماثلة.

وبمعزل عن هذا التعدد على صعيد الذات والانفتاح على الآخر وعلى الطبيعة قد تصبح الهوية خطيرة من الناحية الاجتماعية والسياسية لأنها تقود إما إلى الغيرية الثقافية الجذرية وإما إلى النزعة الاستبعادية أو الوجود الأحادي وهي مذمومة في كلتا الحالتين.

إن الهوية الثقافية مطلب مشروع، وهي سر نهضة الجماعات، إلا أنها متى فصلت عن الوعي بالتاريخ الواقعي والعلاقات الاجتماعية القائمة تصبح على درجة معينة من الخطورة ." إن الهوية الثقافية - يقول سيرج لاتوش- توجد "بذاتها" (en soi) بين الجماعات الحية، أما عندما تصبح مطلبا "لذاتها" (pour soi) فإنها تتحول عندئذ إلى علامة دالة على الانكفاء على الذات حيال خطر داهم يتهددها، ويخشى من أن تنحرف في اتجاه الانغلاق بل إلى التضليل والخداع " ([4]).

وعليه فإن الهوية الثقافية هي عبارة عن منتوج تاريخي معين ومخزون من القيم المشتركة تكوّن بطريقة لا واعية وبالتالي تظل عند الجماعة مفتوحة ومتعددة أما عندما يتم تحويلها إلى أداة فإنها ،على العكس من ذلك تنغلق على ذاتها وتصبح استبعادية، أحادية، لا تعرف التسامح، وشمولية، وتواجه خطر الكليانية،عندئذ تجد نفسها غير بعيد عن التطهير العرقي.ذلك هو ما دعا ماكسيم رودنسون إلى نعتها بأنها "وباء الجماعات" ([5]).

بناء على ذلك نستطيع أن نعرف الهوية تعريفا إجرائيا على النحو التالي :

إن الهوية في دلالتها الشاملة هي محصـلة ما ينتجه المجتمع أو الأمـة أو الدولة من إنتاج مادي أو رمزي
وما يصطنعه لنفسه من علاقات أفقية بين أفراده ، وما يؤسسه من تنظيمات اجتماعية أو سياسية ، و ما يقيمه من علاقات - سواء مع محيطه الطبيعي أو مع الأمم الأخرى - تعزز حضوره في العالم .

2- نماذج من التعايش في مرحلة ما قبل الدولة :

يمكن القول إن الدولة الموريتانية ذات السياق والمنبت التكويني العربي الإفريقي لا تشذ عن قاعدة التنوع الثقافي الذي أصبح صفة تكاد تكون ملازمة للدولة المعاصرة . ويتضمن المجتمع الموريتاني مكونين رئيسيين يرتبط بهما العديد من المكونات الفرعية وهذان المكونان هما : المكون العربي الصنهاجي والمكون الإفريقي الزنجي.

وقد مر التفاعل بين العناصر الجزئية في ذينك المكونين بمراحل ثلاث هي التي أدت إلى تشكل المجتمع الموريتاني في شكله الحالي :

- التفاعل بين العنصر البربري الصنهاجي والعنصر الإفريقي الزنجي

- التفاعل بين العنصر العربي والعنصر الصنهاجي

- التفاعل بين المكون العربي الصنهاجي والمكون الإفريقي الزنجي

وقد نجم عن كل مرحلة من مراحل التفاعل بين تلك المكونات آثار حضارية مادية ملموسة وأشكال معينة من التعبير الثقافي وأنماط من السلوك والعيش والتكيف مع الوسط الطبيعي..

والحال أن العديد من الأجناس البشرية قد عرف منذ القرون الأولى للميلاد في المناطق الفاصلة بين الصحراء الكبرى وشواطئ البحر الأبيض المتوسط تفاعلا عجيبا بين عناصر ثلاثة هي : البربر والأفارقة والرومان لينضاف إلى ذلك تفاعل تلك العناصر مع العنصر العربي في مراحل لاحقة .

ومما ساعد في تشكل ذلك الفضاء العولمي المتكافئ إلى حد كبير - وخاصة في الأجزاء الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط - اندراج شعوب المنطقة في نفس السيرورة المجتمعية والثقافية والعلاقات الاقتصادية المتكافئة والمستوى الإنتاجي المتقارب رغم التباين في أنماط الإنتاج المادي والرمزي.

ولا نبالغ إذا قلنا بأن حياة كل عنصر من تلك العناصر كانت تتوقف على ما يعرضه الآخر من منتجات وهذا في رأينا هو المدلول الإيجابي للعولمة خلافا لمفهومها الشائع في الوقت الراهن.

وقد لعبت المدن الموريتانية القديمة و الوسيطية نظرا للموقع الجغرافي للبلاد كحلقة وصل بين شمال القارة وجنوبها، ونظرا إلى أنها كانت في تلك الفترة رمزا للتعايش والانسجام بين المكونات الثلاثة التي أشرنا إليها، دورا مهما في نسج خيوط ذلك الفضاء المنسجم ، وتمتين الروابط الثقافية بين عناصره المختلفة ومن أهم تلك المدن:

- ولاتة والتي استطاعت أن تجسد نموذجا فريدا من نوعه من التعايش والوئام بين مختلف الأعراق (العرب والسوننكى والبربر) . وقد مثل البعد الاقتصادي عاملا من عوامل الانسجام بين سكانها. وكان من أشهر البضائع التي تصدرها الملح والزجاج والقرنفل والصمغ العربي والبخور([6]) .

وينعكس التنوع الثقافي لهذه المدينة أولا في نمطها المعماري المميز الذي جمع بين العمارة الإفريقية وبين الزخارف الهندسية المستوحاة من العمارة الأندلسية وبعض المؤثرات الأخرى الصادرة من آسيا الصغرى ثم في لغاتها العربية والسننكية والآزيرية ([7]) وغيرها ... وفي أسلوب عيشها وخاصة في السلوك المدني والتخطيط الاقتصادي وأنماط التنظيم الاجتماعي التي لا تزال قائمة حتى الآن والتي لا نجد لها مثيلا في محيطها البدوي .

و من أهم الممالك الزنجية التي حكمت جزءا مهما من هذه الأرض والتي تبين لنا نمط العلاقة بين تلك المكونات الثلاثة مملكة غانا . فلماذا غانا تحديدا ؟

إن هذه المملكة رغم كونها مملكة زنجية إلا أنها كانت مثالا حيا على التعايش والانسجام بين المكونات الثقافية المختلفة واستحقت عاصمتها أن تسمى بـ "المدينة العالمية".

وقد ساعد الموقع الجغرافي لتلك المملكة الواقعة بين مناجم الذهب في الجنوب ومقالع الملح في الشمال، على ازدهار اقتصادها مما جعلها مركزا تجاريا مهما ومحطة للقوافل التي تجوب الصحراء . ومن الطبيعي أن تجلب غانا إليها قوافل التجار من مدن الشمال الإفريقي في مرحلة مبكرة وقد أدى تزايد أعدادهم بها إلى تأسيس مدينة لهم بالقرب من كومبي صالح حوت اثني عشر مسجدا وكانت تعج بالفقهاء والأئمة والعلماء . وقد أسهم ذلك الحضور العربي الإسلامي في الحياة العامة للمملكة بالإضافة إلى أثرها الاقتصادي في بناء نهضتها فكان بعض وزرائها وأعوان الملك والتراجمة من المسلمين وكذلك صاحب بيت المال (وزير الاقتصاد) وهو منصب له أهمية كبيرة بالنظر إلى أهمية المبادلات التجارية . ورغم أن ملكها لم يعتنق الإسلام إلا أنه كان يكن احتراما شديدا له.

بناء على ذلك يمكن القول بأن مشكلة التعايش بين المكونات العرقية والاجتماعية للدولة الموريتانية ليست مشكلة مترتبة على خطأ من أخطاء التخطيط الاستعماري للمنطقة كما يروج له البعض لأن التواجد المدني بين تلك المكونات ضارب في القدم ، بل هو نتيجة لجملة من العوامل الذاتية التي تتعلق بالدولة الناشئة في جزء كبير منها .

3- أسباب مشكلة التعايش في الدولة الوطنية :

تعود مشكلة التعايش بين المكونات الاجتماعية في ظل الدولة الوطنية إلى العديد من العوامل الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والثقافية والتربوية .

أ- العوامل السياسية والأيديولوجية:

هناك بعض العوامل التي أدت إلى تكون شكل بدائي من الوعي السياسي لدينا ومن أبرزها غياب الدولة تاريخيا وتحكم العقلية البدوية وسيطرة الولاءات العمودية والبنى السابقة على الدولة.

وإذا كانت المقاومة الوطنية قد ساعدت على تشكل الإرهاصات الأولى للوعي السياسي في موريتانيا وإلى تكوين مفهوم غامض للوطن إلا أن بعض العوامل الداخلية والخارجية سرعان ما أدت إلى إجهاض ذلك المسعى وإلى دخول البلد في حالة خطيرة من انشطار الوعي وتشظي الضمير الوطني . وقد امتدت هذه الحالة من الفترة التي أعقبت الاستقلال وصولا إلى نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي.

وقد لعبت البلشفية العالمية وحركة القوميين العرب والزنوج الأفارقة وغيرها من الأيديولوجيات الوافدة دورا كبيرا فيها : نتحدث هنا عن أحداث 66 وما تلاها من أحداث مماثلة .

ولم تحرمنا هذه المرحلة المأساوية من تاريخنا من توطيد دعائم الوعي المدني الوطني النابع من خصوصيتنا الثقافية وهويتنا الجامعة فحسب بل حرمتنا أيضا لعقود طويلة من إمكانية التعايش والتواجد المدني السلمي لأن الاختلاف بين المكونات الثقافية والذي كان في بداية الأمر اختلافا ساذجا أصبح الآن له معنى منحته إياه قوى الطرد المتبادل .

لقد كان من الضروري أن تؤدي الأحداث الاجتماعية المتكررة التي هزت النسيج الاجتماعي في عقد الستينيات وسيطرة الأيديولوجيات الوافدة على النخب الفكرية والسياسية في البلد سواء تعلق الأمر بالحركات المرتبطة باليسار الماركسي أو باليمين المتأرجح المتمثل في حركة القوميين العرب وحركة القوميين الزنوج والحركات الإسلامية التي كان ظهورها متأخرا نسبيا ينضاف إلى ذلك حركة القوميين الحراطين رغم صعوبة تصنيفها ضمن الأيديولوجيات الوافدة إلى اغتراب الوعي ودخوله في دوامة الوعي الارتكاسي.

ولم تزد الانقلابات العسكرية المتعاقبة الضمير الوطني إلا تمزقا والوعي إلا اغترابا وقادت إلى حالة عامة غير مسبوقة من الانكفاء على الذات ثقافيا وأيديولوجيا.

ب- العوامل الاقتصادية :

لقد أدت بعض العوامل الطبيعية والمناخية إلى ندرة المصادر الاقتصادية للبلد الذي ينتمي إلى منطقة الساحل ودخوله في حالات كثيرة في أوضاع اقتصادية صعبة أدت إلى خلخلة النسيج الاجتماعي والهجرة المكثفة من الريف إلى الحضر وبالتالي الاحتكاك بين عناصر متعددة المشارب ومختلفة في أنماط العيش ولم تفلح الدولة الموريتانية في الاهتداء إلى طريقة تضمن بها توفير فرص العمل للجميع من خلال المؤسسات المشتركة والمشاريع الاقتصادية الكبرى التي كان من شأنها أن تؤدي إلى التعود على العيش المشترك بين مختلف المكونات بل على العكس أدى الفشل في سياسات التنمية وسوء التوزيع على الصعيد الداخلي إلى تزايد الأزمات الاجتماعية فتعززت الانقسامات العمودية للمجتمع بانقسامات أفقية طالت المكون الواحد . ومن أبرز المشكلات الناجمة عن الانقسام الأفقي للمجتمع والتي انعكست بدورها سلبا على الوحدة الوطنية مشكلة الرق .

وفي تقديرنا أن ما تبقى من مشكلة الرق سواء تعلق الأمر بممارسات أو آثار اقتصادية واجتماعية ونفسية يجد تفسيره في الجانب الاقتصادي والتربوي مما نجم عنه تفاوت كبير في امتلاك الثروة والمعرفة والسلطة.

لذلك فإننا نعتقد أن حل المشكلة الاقتصادية في هذا الجانب وفي غيره من الجوانب الأخرى هو الأساس الذي يستند عليه حل المشاكل الأخرى الثقافية والتربوية .

ج- العوامل الثقافية والتربوية :

يمثل النظام التربوي في كل الدول الوسيلة الأولى لتقوية الشعور بالانتماء للكل الذي تمثله الدولة كما يسعى إلى ترسيخ قيم العدالة والمساواة والشعور بوحدة المصير. إن من أهم أهداف النظام التربوي في الدولة التعددية دعم المشروع المجتمعي الذي يجد فيه الجميع ذاته . لكن النظام التربوي عندنا لا يزال مطالبا بالقضاء على عوامل التفرقة لأنه يعمل في بعض الأحيان بدون وعي منه على تكوين ثقافتين وحضارتين ونظامين من القيم لشعب واحد . ولا تزال المدرسة مطالبة بالاضطلاع بدورها في زرع قيم المحبة والمؤاخاة بين أفراد المجتمع .

علاوة على ذلك لا يزال النظام التربوي مطالبا باستيعاب الفئات المهمشة مثل الحراطين (الأرقاء السابقين) والتي تحول أوضاعها الاقتصادية الصعبة من الحصول على تعليم مناسب لأبنائها . ونحن هنا أمام شكل من أشكال الدور المنطقي : لكي يتعلموا لا بد أن تتغير أوضاعهم ولكي تتغير أوضاعهم لا بد أن يتعلموا !.

وفي تقديرنا أن التمييز الإيجابي ضروري كذلك بالنسبة لهؤلاء للخروج من هذه الجدلية الهدامة وذلك من خلال خلق المناطق ذات الأولوية التربوية وهو ما من شأنه أن يقضي على الهوة التي تفصلهم عن بقية المجتمع والتي كانت ولا تزال سببا من أسباب التطرف والعمل ضد المشروع الوطني . وهذا هو ما شرعت الحكومة بالفعل في تطبيقه من خلال خارطة الطريق التي صادقت عليها منذ عدة أشهر.

هذا الأمر يقودنا إلى الاستنتاج بأن مشكلة التعايش في بلادنا ليست مشكلة ثقافية وتربوية فحسب بل مشكلة اقتصادية واجتماعية أيضا .ومع ذلك فإننا نعتقد أن حل المشكلة الاقتصادية والاجتماعية يجعلنا في وضع جيد للتوصل إلى حل ناجع للمسألة الثقافية إن لم يكن هو المفتاح الفعلي لها.

المحور الثاني - عوامل التفكك ومحددات الهوية القلقة :

يمكن حصر محددات الهوية القلقة فيما يلي :

1- النزعة الاستبعادية والغيرية الثقافية الجذرية:

النزعة الاستبعادية: هي نوع من الانكفاء على الذات يعتقد أصحابه بنوع من التعالي والنزعة الفوقية التي توجد لدى مكون واحد يعتقد أنه هو الذي يمثل الثقافة الأصلية وبالتالي فهو المسؤول لوحده عن مصير الأمة وينظر إلى الأعراق الأخرى والمكونات الأخرى نظرة دونية لا تخلو من تخوين وتشكيك في أصالتها ومواطنتها . ولا تخلو مواقف هؤلاء من الشطط في بعض الأحيان واعتبار الأقليات الزنجية أقليات وافدة جلبها الاستعمار وألبها على من يعتبرونهم سكانا أصليين للبلد من العرب . والواقع أن التنوع كما بينا موجود في بنية الأصل ذاتها فالجميع أصليون ومتجذرون في تاريخ البلد وثقافته كما رأينا.

أما الغيرية الثقافية الجذرية : فهي النزعة المقابلة للنزعة الاستبعادية وهي أيضا نمط من الانكفاء على الذات ناجم عن الشعور المبالغ فيه في الكثير من الأحيان بالتهميش والغبن رغم أن الفئات الاجتماعية التي يتشكل منها هذا المكون المهم من الشعب الموريتاني استفات بشكل أكبر من مزايا المدرسة الفرنسية واندمجت في الأسلاك الإدارية والدبلوماسية في مراحل مبكرة من نشأة الدولة.

وفي تقديرنا أنه بالإمكان القضاء على هذين النوعين من الانكفاء على الذات (النزعة الاستبعادية والغيرية الثقافية الجذرية) بتفعيل دور النظام التربوي وجعله في خدمة المشروع الوطني والأهداف التنموية ، والعمل على محو الآثار النفسية لعقود طويلة من التوترات الاجتماعية .

وقد مثل الاعتذار الذي قامت به أعلى سلطة في البلد لضحايا الإرث الإنساني والتعويض المادي الذي قدم للكثير منهم علامة بارزة ومهمة في هذا الطريق. فقد مثل توقيع وثيقة الإطار المتعلقة بتصفية الإرث الإنساني و أيام المصالحة الوطنية في كيهيدي التي كللت بصلاة الغائب ترحما على ضحايا أحداث سنة 1989 -1991 وخطاب الرئيس في تلك المدينة في الـ 25 مايو 2009 الذي قال فيه "نحن هنا من أجل وضع حد لآلام الشعب مهما كانت طبيعتها" خطوات متقدمة في مضمار تعزيز الوحدة الوطنية وتأسيسها على دعامة قوية.

كما مثلت التعديلات الدستورية التي تمت سنة 2012 تطورا إيجابيا كبيرا في سبيل الإقٌرار بالتعددية الثقافية في البلد وحماية الدستور لها. تقول المادة 2 في فقرتها الرابعة :

"إن الشعب الموريتاني الذي توحده عبر التاريخ قيم أخلاقية وروحية مشتركة وطموح إلى مصير واحد يعترف ويعلن تنوعه الثقافي الذي هو أساس وحدته الوطنية ولحمته الاجتماعية وما ينجر عنه من حق في تميز الثقافات الوطنية . وتشكل اللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد واللغات الوطنية الأخرى البولارية والسننكية والولفية كل في حد ذاتها موروثا وطنيا مشتركا لجميع الموريتانيين يجب على الدولة باسم الجميع أن تحفظه وتطوره " . وهذا الأمر له دلالات رمزية عديدة في ظل تنامي النزعات الانفصالية وشرذمة المجتمع تحت تأثير العولمة الثقافية.

ولكن الإصلاحات الدستورية على أهميتها تبقى قاصرة عن معالجة الشرخ أو الانقسام العمودي للمجتمع والذي لا يمكن استئصاله بشكل جذري بدون اقتراح سياسة تعليمية واعية ومسؤولةتأخذ في عين الاعتبار إيجابيات المدرسة الجمهورية في ما تؤكد عليه من تعزيز للحمة الوطنية وتقوية للأمة . لذلك حصر البعض ([8]) المبادئ الأساسية للمدرسة الجمهورية فيما يلي :

أ- بما أن في كل مجتمع يوجد عدد من القيم المشتركة يقوم على أساسها الاندماج الاجتماعي بين أفراده فإن أول مبادئ المدرسة الجمهورية هو تقوية القيم المشتركة من خلال شمولية الرسالة التي تتعالى على الانقسامات الطائفية والفئوية والعرقية والجهوية بما يتضمنه ذلك من ضمان للوحدة وتعزيز لقوة الدولة الوطنية.

ب- المبدأ الثاني الذي تقوم عليه المدرسية الجمهورية هو : تأكيد الحياد الاجتماعي للمؤسسة التربوية :la neutralité sociale de l’institution وهذا يعنى أن تقوم المؤسسة على قواعد غير شخصية مستمدة من علاقة اجتماعية معينة أساسها الرابطة البيداغوجية : ما الذي يجب أن نعلّمه ؟ وكيف يمكننا أن نعلّمه ؟ ووفقا لهذا المبدأ فإن وظيفة المدرسة لا تكمن في تغيير النظام الاجتماعي بل في تمتين اللحمة الاجتماعية لمكوناته.

ج- المبدأ الثالث من مبادئ المدرسة الجمهورية هو تأسيس تراتبية قائمة على الأهلية الفردية :la méritocratie. وتتحدد مهمة المدرسة بحسب هذا المبدأ في اختيار المتفوقين من التلاميذ بحسب نظام الاستحقاق وحده دون النظر إلى الأصل الاجتماعي. ووفقا لهذا المبدأ تضمن المدرسة لكل تلميذ مهما كان محل إقامته أو جهته أو أصله الاجتماعي حقا مساويا في التعليم : المعرفة ذاتها وفي نفس الظروف : le même savoir dans les mêmes conditions .

د- المبدأ الأخير من مبادئ المدرسة الجمهورية : يتمثل في بناء الفرد المستقل استقلالا ذاتيا l’individu autonome.إذ تسمح المدرسة الجمهورية للطفل بالحصول على ثقافة اجتماعية كلية أو شمولية تساعده في تكوين بعض القواعد والقيم الذاتية المستقلة عن قيم الطوائف والجماعات الاجتماعية والأعراق أو أي مكون آخر من المكونات الجزئية للمجتمع وهو ما يساعده بالضرورة على تكوين فكر نقدي.

وبالإضافة إلى ضرورة الأخذ بإيجابيات المدرسة الجمهورية هناك حاجة ماسة إلى الاعتناء بمرحلة التعليم ما قبل المدرسي فالتعليم ما قبل المدرسي مرحلة مهمة في تكوين شخصية الطفل وغرس المبادئ التي يجب تتوفر في جيل المستقبل خصوصا في بلد كبلدنا يعاني من هشاشة النسيج الاجتماعي والوطني . لذلك يجب خلق إطار تشريعي وتنظيمي للتعليم ما قبل المدرسي وجعله في قائمة الأولويات في الوزارة المكلفة بالتربية والتعليم بالإضافة إلى صياغة برامج تكوين خاصة تساعد على الاندماج بين الأطفال ابتداء من هذه المرحلة المهمة .

وعليه يجب أن يكون أن يكون غرس مبادئ الأخلاق الفاضلة والمحبة والتسامح وحب الوطن وترسيخ الوعي بالهوية الوطنية الجامعة والألفة وحسن المعاشرة (la sociabilité) والانضباط أول الأهداف التربوية الذي نسعى إلى تحقيقه في منظومتنا التعليمية.

وفي تقديرنا أن تعليم اللغات الوطنية المختلفة في هذه المرحلة أمر حيوي لتسهيل الاندماج الاجتماعي وتعزيز التواصل بين المكونات الاجتماعية والثقافية للبلد في سن مبكرة لأن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر كما ذكرنا ويتعلق الأمر على وجه الخصوص بـ :

تعليم اللغات الوطنية لكل طفل بالتركيز على اللغات الوطنية الأخرى غير لغة الأم : التركيز على اللغة العربية مثلا لسكان الضفة والتركيز على اللغات الوطنية الأخرى (السننكية والبلارية والولفية) في المناطق الأخرى.

كما أن الحفاظ على تكوين موحد مزدوج للجميع في مختلف مراحل التعليم الأخرى هو مكسب وطني تحقق بالفعل ولا ينبغي التراجع عنه بأي شكل من الأشكال .

2-أيديولوجيا الانتكاس والارتكاس : أيديولوجيا الانتكاس والارتكاس هي هنا جميع النزعات الماضوية القائمة على الهجرة في الزمن من جهة أوالنزعات القائمة على رد الفعل ونظرية المؤامرة ونكتفي هنا ببعض الأمثلة :

هناك منهج موروث عن أصحاب الوعي الارتكاسي يرجع جميع المشكلات إلى العوامل الخارجية وعلى رأسها الاستعمار : مشكلة التعايش أو الفصل بين سكان البلد وتأليب البعض منهم ضد البعض الآخر ، مشكلة التخلف ذاتها..مشكلة الفصل بين البلد وبين سياقه الحضاري "الطبيعي" إلخ...

والحقيقة أن الكثير من تلك المشكلات إما أنها مشكلات بنيوية محايثة لوجود المجتمعات وانبنائها الاجتماعي والثقافي ولا دخل للاستعمار فيها أو طارئة نشأت نتيجة لبعض الأخطاء في الحكامة السياسية لدولة الاستقلال.

فرنسا وجدت سكان البلد أكثر ارتباطا بسياقه الإفريقي أكثر منه مع سياقه العربي في العادات والتقاليد وفي المعاملات التجارية والأزياء والعادات الغذائية وفي الفنون المختلفة ...طغيان البعد الإفريقي والثقافة الإفريقية على البلد والارتباط الجغرافي الشديد بالسياق الإفريقي جعله أكثر تأثرا به من سياقه العربي والمغاربي رغم الأصول والجذور التي لا يختلف فيها اثنان.

ثم إن القول بأن فرنسا همشت الثقافة العربية وهي حقيقة لامراء فيها لا ينبغى أن نستنتج منه أن ذلك من أجل الإعلاء من شأن الثقافة الإفريقية الأمر بالنسبة إلي يجد تفسيره في قوانين فلسفة التاريخ وفي صراع الحضارات أو ما يسميه صمويل هنتكتون بصراع الحضارة الغالبة مع الحضارات المتحدية وعلى رأسها الحضارة العربية الإسلامية فهي تمثل بالنسبة لفرنسا الاستعمارية حضارة متحدية هذا الشعور كان دائما حاضرا في نفوس الإداريين الاستعمارين وفي نفوس سكان البلد من العرب أيضا. فمن غير المعقول أن يسمح دعاة الرسالة الحضارية بوجود خطاب يقلل من شأنها أو يضعف من تأثيرها وإن حدث ذلك عرضا وعن غير قصد إذ ساهمت فرنسا تحديدا في نشر الإسلام في إفريقيا كما يؤكد ذلك الكثير من المؤرخين الأوروبيين والأفارقة ([9]).

ج- الوعي الطبقي: وينشأ عن الشعور بالانتماء لا إلى الدولة وإنما إلى الكيانات الجزئية كالفئة الاجتماعية . وفي تقديرنا أنه لا يمكن القضاء على الوعي الطبقي ببقاء العوامل المؤدية إليه كالفقر والجهل والتهميش . وتبقى المعالجة الصحيحة لهذا التحدي هي المقاربة الاقتصادية التربوية من خلال مبدأ التمييز الإيجابي على المستويين الاقتصادي والتربوي .

ولا بد من الإشارة هنا إلى الجهود الحثيثة التي تتبعها الدولة في إزالة الظلم عن الكثير من شرائح المجتمع وخصوصا الشرائح التي تعاني من آثار الاسترقاق . وتلعب وكالة التضامن التي أنشأتها الدولة لمعالجة هذه المشكلة دورا مهما في هذا المجال وهي الآن مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالعمل بشكل أسرع وأشمل وأعمق من ذي قبل. ولا بد أن يأخذ التمييز الإيجابي إزاء هذه الفئة بعين الاعتبار التركيز على مقاربتين يتعلق بهما الحل الأنجع لهذه المشكلة : هما المقاربة التربوية من جهة لمعالجة مشكلة التسرب المدرسي في "آدوابه" وهوامش المدن الكبيرة والمقاربة الاقتصادية التي تكمن في التركيز على دعم النشاط الذي تزاوله الشرائح التي تعاني من آثار الاسترقاق ويتعلق الأمر بالزراعة المطرية ودعم المشاريع الصغيرة والبحث عن وسيلة لوضع حد للتقري الفوضوي ودعم التجمعات الكبيرة بشتى الوسائل .

وبالفعل صادقت الحكومة في الأشهر الماضية على خارطة الطريق لحل هذه المشكلة وهي تتضمن من جملة ما تتضمنه إنشاء المناطق الأولى بالرعاية من الناحية التربوية .

وفي تقديرنا أن الإسراع بتطبيق بنود الخارطة على نحو فعال وإشراك الشركاء الدوليين والفاعلين المحليين خطوة استراتيجية على الطريق الصحيح لحل المشكلة. ويبقى الدور الأبرز هو ذلك الذي تقوم به وكالة التضامن لمحاربة آثار الاسترقاق وللفقر والدمج.

ولا بأس أن يتعزز هذا المسعى بفتح حوار وطني حول الموضوع تشارك فيه الحكومة المنظمات الدولة المعنية بالموضوع ومنظمات المجتمع المدني وقادة الرأي في البلد من كل الفئات طالما أن الموضوع هو موضوع وطني وليس خاصا بفئة دون أخرى.

المحور الثالث - عوامل الاندماج ومحددات الهوية الواثقة:

أما عوامل الهوية الواثقة ومرتكزاتها فيمكن اختصارها في عاملين اثنين هما :

- الهوية الجامعة

- المواطنة

1- الهوية الجامعة: تتميز الهوية الجامعة باعتبارها هوية استراتيجية بعدد من الميزات : فهي ديناميكية أقوامية ومنصفة:

أ- ديناميكية : لأنها تستبعد الخصوصية الثقافية الضيقة والغيرية الثقافية الجذرية.

ب- أقوامية : لأنها قائمة على دعامة دستورية تحمي التنوع الثقافي للبلد وتدافع عنه.

ج- منصفة : لأنها قائمة على مبدأ التوزيع العادل للثروة والمعرفة والسلطة بين مواطنين أحرار ومتساوين.

بناء على ذلك فإن الهوية الأقوامية هي شكل من أشكال الهوية الديناميكية القائمة على معقولية الانفتاح والتنوع والاعتراف المتبادل ونبذ الوجود الأحادي والنزعة الاستبعادية والخصوصية الثقافية الضيقة. ووفقا لهذا التحليل فإن المواطنين في الدولة الديمقراطية المعاصرة ليسوا مطالبين بالانسجام إلى درجة التماهي ولكن باحترام الحق في الاختلاف وفقا للحكمة المعروفة : "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به" (ce que tu réclameque les autres te fessent fait le leurs) وفقا لمقتضيات المواطنة ودولة القانون.

ومن الجدير بالذكر أن الهوية الجامعة هي مسار طويل من عمل الأفراد والمؤسسات وليست معطى جاهزا رغم توفر الكثير من المشتركات التي تساعد في وجوده. إن بناء الهوية الجامعة الديناميكية يقتضي جذب مختلف الجماعات باتجاه الاندماج المؤسساتي والاجتماعي وهو ما سيؤدي بالتدريج إلى توليد مزاج عام وشعور بالانسجام بين المكونات الفرعية والثقافة الجامعة.

ويمثل النجاح الاقتصادي وإصلاح المنظومة التربوية عوامل مهمة وشروطا ضرورية من شروط بناء الهوية الجامعة.

2- المواطنة في الدولة التعددية:

أ- تعريف المواطنة :

مفهوم المواطنة هو مفهوم قديم جديد : هو مفهوم قديم لأنه يعود إلى العصور الأولى لتأسيس الدولة بمفهومها المدني وهو مفهوم جديد نظرا للأبعاد التي أخذها في ظل الأحداث الكبرى في التاريخ المعاصر مثل الثورة الأمريكية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويأخذها الآن في ظل العولمة .

فما المقصود بالمواطنة ؟ وما هو الدور المنتظر منها في الدولة التعددية ؟

المواطنة هي قوة الانتماء إلى الكل الذي تمثله الدولة وليس لأي كيان من الكيانات الموازية لها أو السابقة عليها كالقبيلة أو الجهة أو الكيانات الجزئية كالعرق أو الطائفة إذن قوة الانتماء إلى هذا الكل الجامع الذي يجمع مواطنين مختلفين من مشارب اجتماعية وثقافية مختلفة تحت مظلة واحدة وفقا لنسق من العلاقات الأفقية يحدد فيها القانون ما يتعين عليهم فعله أو تركه وما يحق لهم الحصول عليه من مزايا وما لا يحق لهم وبناء على ذلك فإن المواطنة تعني المساواة الكاملة أمام القانون . إذن السؤال هنا هو كيف يمكن أن يكون لدينا مواطنون مختلفون لكنهم في نفس الوقت متساوون أمام القانون ؟

ب- الأسس القانونية للمواطنة :

المواطنة تقوم على أسس قانونية أو حقوقية حددها فقهاء القانون في ثلاثة أمور :

- قانون الدم

- قانون الأرض

- قانون الهجرة

ج- الأسس السياسية والاجتماعية للمواطنة :

تقوم المواطنة على ثلاث قيم أساسية هي : المدنيةcivilité والوعي المدني civisme والتضامن solidarité.

وإذا كانت النخبة المثقفة هي المسؤول الأول عن توجيه الرأي العام الوطني إلى الخيارات الثقافية للأمة وتشكيل الضمير الوطني، فإنها كذلك مطالبة بترسيخ مفهوم المواطنة و تصحيح مفهومها في ظل سيطرة البنى السابقة على الدولة القائمة على الولاءات العمودية. ذلك أن النظام الديمقراطي خلافا للنظام الاستبدادي والأوليغارشية وحتى النظام الملكي هو الذي يكون فيه كل مواطن مدعوا للدفاع عن الأمة لأنه يمثل فيها حاله حال أي مواطن آخر السلطة العليا.

وعليه فإن "خيار" الديمقراطية كان ولا يزال فرصة ذهبية لمجتمعنا الذي لا تزال تسوده الولاءات العمودية لإظهار تمسكه بقيم المواطنة وخصوصا التضامن باعتباره مجموعة من المواطنين يربطهم مشروع مشترك وليس مجموعة من الأفراد المتجاورين بحسب ضرورات المكان والعيش.

الخاتمة

إن العولمة الثقافية بقدرما تؤدي إلى إضعاف الدولة الوطنية وإلى تفكيك عرى الجماعات بقدرما تظهر الحاجة الماسة إلى التكتلات والفضاءات الكبرى من أجل البقاء وأن حاجة كل عنصر الآن إلى غيره أصبحت ضرورية أكثر من أي وقت مضى. ففي عالم أصبح فيه كل شيء يتغير لن يكون فيه مكان للكيانات الهزيلة العاجزة بالطبع عن تحمل أعبائها . والحقيقة أن الخصوصية الثقافية أمر مطلوب لكنها لا تكون كذلك إلا بالاعتراف بحق الآخر في الوجود من منطلق الاختلاف وليس التناقض.

إن ثراء الثقافة الموريتانية وتعدد أبعادها يؤهلها بالفعل إلى توظيف أشكال التعبير الثقافي الصادرة عن كل مكون على حدة في بناء مخزون من التجارب البشرية والخبرات المفيدة في مجالات متعددة كالثقافة والسياحة وأنماط العيش كما يؤهلها أيضا للعب أدوار مهمة على الساحة الإقليمية والدولية وهو الأمر الذي تفتقر إليه الكثير من شعوب المنطقة. وهذا الأمر يقتضي في نظرنا ضرورة إعادة تحديد مفهوم الهوية في ضوء التنوع الثقافي الذي أصبح صفة ملازمة للدولة المعاصرة وبعدا من أبعادها .

المصادر والمراجع :

1- البكاي ولد عبد المالك وآخرون ، العيش سويا ، منشورات مجلة أوراق فلسفية ، دار الثقافة العربية ، القاهرة، 2005.

2- عليٌ تراوري ، الإسلام والاستعمار في إفريقيا – الشيخ حماه الله رجل الدين والمقاومة ، ترجمة البكاي ولد عبد المالك ، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ،تونس، 2010.

3- إبراهيم حركات، دور الصحراء الإفريقية في التبادل والتسويق خلال العصر الوسيط، مجلة جهاد الليبيين، العدد الأول ، سنة 1981.

4-Fathi Triki, La Stratégie de l'identité, Arcantères Essais ,Paris ,1998.

5- Serge Latouche , l'occidentalisation du monde , la Découverte, Paris,2005.

6-Maxime Rodinson , "La peste communautaire", le Monde , 1 er décembre 1989.

7- Olivier Cousin , Les élèves face à l’école républicaine,….

8- le petit LAROUSSE , Larousse, Paris, 2007.



[1]Le petit LAROUSSE , Larousse, Paris, 2007 , p. 561.

[2]البكاي ولد عبد المالك وآخرون ، العيش سويا ، إصدارات أوراق فلسفية ، القاهرة ، 2008، ص 17.

[3]Fathi Triki, La stratégie de l’identité , Arcantères Essais ,Paris,1998,p.25.

[4]Serge Latouche , l'occidentalisation du monde , la Découverte, Paris,2005,introduction , p.17.

[5]Maxime Rodinson , "La peste communautaire", le Monde , 1 er décembre 1989.

[6] إبراهيم حركات، دور الصحراء الإفريقية في التبادل والتسويق خلال العصر الوسيط، مجلة جهاد الليبيين، العدد الأول ، سنة 1981، ص27

[7]مزيج مركب من لغات متعددة منها اللغة السننكية والبربرية وألفظ أخرى

[8]Olivier Cousin , Les élèves face à l’école républicaine,….

[9]عليٌ تراوري ، الإسلام والاستعمار في إفريقيا ، الشيخ حماه الله رجل الدين والمقاومة ، ترجمة البكاي ولد عبد المالك ، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ، تونس ، 2010 ، ص

 

البحث

آخر الإصدارات

إعلان

المركز على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox

وحدات المركز

وحدات