نتائج "الحوار الوطني".. تعديلات مهمة بدون وفاق

altفي ظل الحوار السياسي الذي يجري حاليا بين الأغلبية وجزء من المعارضة وبمشاركة من جزء من المجتمع المدني، تعود للواجهة قضية التعديلات التي تحتاجها المنظومة القانونية الحاكمة لشؤون السياسة والإدارة في البلد. والتي تتعدد فيها رؤى القوى السياسية والاجتماعية.

ويأتي هذا الحوار بعد خمس سنوات من الحوار الذي انطلق في سبتمبر 2011 وتوصل لجملة من التعديلات الكبيرة على الدستور والقوانين المنظمة للشأن السياسي والمنظومة الإدارية المتصلة به، أقرت في مؤتمر برلماني انعقد خلال شهري يناير و فبراير 2012.


هذه التعديلات كنا قد تناولناها بالتقويم في "التقرير الاستراتيجي لموريتانيا 2012-2013" (صدر في مارس 2014) ونعيد اليوم نشرها لتكون بين أيدي المهتمين بالموضوع علها تساعد في إنضاج مراجعة دستورية وقانونية تساعد في وضع الأسس للدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.

نتائج "الحوار الوطني".. تعديلات مهمة بدون وفاق

أسفر الحوار الذي أجرته الأغلبية الرئاسية وبعض أحزاب المعارضة في نهاية السنة 2011 وأقر البرلمان نتائجه في بداية 2012، عن جملة من التعديلات الدستورية والقانونية المتعلقة بالشأن السياسي والوحدة الوطنية.


إلا أن هذه النتائج التي غيرت كثيرا في "المدونة السياسية" –إن جاز التعبير- وأحدثت تغييرات كبيرة ذات طابع إيجابي في غالبها طغى عليها تأثير الطريقة غير الإجماعية التي أقرت بها، وما صاحب ذلك من استخدام سياسي من طرف مؤيديها وانتقاد حاد من معارضيها. لذلك ارتأينا أن إدراج استعراض تفاصيلها في هذا التقرير الاستراتيجي يمكّن المتابعين من ذوي الاهتمام السياسي والقانوني من تقويمها بشكل متأن.

وكما قلنا فقد جاءت هذه التعديلات في مناخ سياسي حاد ولم تنجح في تلطيفه، ولذلك فإن تقويمها جاء متأثرا بهذا الاستقطاب ما بين واضعيها الذين رأوا أنها: " خطوة هامة على طريق تعزيز الوحدة الوطنية وتقوية التماسك الاجتماعي وترسيخ الممارسة الديمقراطية وعصرنة الحياة العمومية" ، وبين معارضيها الذين لم يروا فيها إلا أنها: "خدعة جديدة دبرها نظام محمد ولد عبد العزيز، الهدف منها إيقاع المعارضة في فخ؛ هذه المرة من أجل تقسيمها، والنيل من مصداقيتها، وتضليل رأي عام معظمه محبط بفعل ديماغوجية النظام، و خداع مجتمع دولي طالما أُبقي على جهله لحقائق الشأن الوطني"( ).

من دَسترة التنوع إلى مراجعة المدونة الانتخابية:
ويمكن حصر هذه التعديلات -كما يرى الخبير الدستوري الدكتور سيد محمد ولد سيد اب- في النقاط التالية:
 تعزيز حقوق الإنسان.
 تجريم الانقلابات العسكرية.
 مراجعة المدونة الانتخابية.
 زيادة مدة الدورات البرلمانية.
 إنشاء لجنة مستقلة للانتخابات.
 تعزيز حضور المرأة في الوظائف الانتخابية.
 تحديد أجل لإحالة "مشروع الميزانية" إلى البرلمان وزيادة فترة نظر الجمعية الوطنية له.
 تعزيز رقابة البرلمان على الحكومة.
 إعادة تشكيل المجلس الدستوري.
 الحد من تشرذم الساحة السياسية( ).

وهذه التعديلات منها ما هو وارد على نص الدستور ومنها ما هو متعلق بقوانين المدونة الانتخابية، كما أن منها ما له علاقة مباشرة بالشأن السياسي، ومنها ما ينصرف إلى تقوية حقوق الإنسان واللحمة الوطنية.

أولا ـ التعديلات ذات الطبيعة السياسية:
ندرج تحت هذا البند التعديلات المنظمة للشأن السياسي بمفهومه الواسع الذي يشمل القواعد الدستورية المنظمة لعلاقات السُّلَط في ما بينها، كما يشمل القوانين المنظمة لتفاصيل العمل السياسي في تجلياته الحزبية والانتخابية.

وقد استحوذت التعديلات السياسية على أغلب المراجعات الدستورية والقانونية التي أسفر عنها هذا الحوار، وهذه التعديلات على النحو التالي:
تجريم الانقلابات: أدخل تعديل على المادة الثانية من الدستور بموجبه أدرجت فقرة تجرم الانقلاب وكل أشكال تغيير السلطة المنافية للدستور؛ ونص الفقرة حرفيا: "تكتسب السلطة السياسية وتمارس وتنقل في إطار التداول السلمي وفقا لأحكام هذا الدستور. وتعتبر الانقلابات وغيرها من أشكال تغيير السلطة المنافي للدستور جرائم لا تقبل التقادم ويعاقب أصحابها والمتمالؤون معهم سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو اعتباريين بموجب القانون، لكن هذه الأفعال لا تكون محل ملاحقات إذا كان قد تم ارتكابها قبل تاريخ نفاذ هذا القانون الدستوري".

خضوع إعلان الوزير الأول عن سياسة حكومته العامة لمناقشة وتصويت البرلمان:وهو ما نصت عليه المادة 42 (جديدة) من التعديل؛ حيث أضيفت فقرة تقول: "يقدم الوزير الأول برنامجه أمام الجمعية الوطنية في أجل أقصاه شهر واحد بعد تعيين الحكومة، ويتعهد بمسؤولية الحكومة عن هذا البرنامج وفقا للشروط المبينة في المادتين 74 و75".


تمديد مدة الدورات البرلمانية: وفقا لأحكام المادة 52 جديدة يعقد البرلمان وجوبا دورتين عاديتين كل سنة، تفتتح أولاهما في أول يوم عمل من شهر أكتوبر والثانية في أول يوم عمل من شهر إبريل، ولا تتجاوز مدة كل دورة أربعة (4) أشهر".

تحديد أجل إحالة مشروع الميزانية السنوية إلى البرلمان وزيادة فترة نظر الجمعية الوطنية له حيث "لم يكن الدستور في نصه الأصلي يحدد بدقة تاريخَ إحالة مشروع قانون الميزانية السنوية إلى البرلمان (بل) اكتفى بالنص على أنه يحال فور افتتاح دورة نوفمبر"( ).

أما في المراجعة الأخيرة فقد نصت المادة 68 في الفقرة الثانية (جديدة) على تحديده؛ حيث قالت بالنص: "يتم إبلاغ البرلمان بمشروع قانون المالية في أجل أقصاه يوم الاثنين الأول من شهر نوفمبر".

كما نصت الفقرة 4 (جديدة) على زيادة مدة نظر الجمعية الوطنية لمشروع الميزانية من 30 يوما إلى 45 يوما، ونصها: "إذا لم يصوت البرلمان على الميزانية في أجل خمسة وأربعين (45) يوما، أو إذا لم يصوت عليها متوازنة؛ فإن الحكومة تحيل مشروع قانون المالية في أجل خمسة عشر (15) يوما إلى الجمعية الوطنية.


الحد من تشرذم الساحة السياسية: بموجب التعديلات الأخيرة منعت الترشيحات المستقلة (باستثناء الانتخابات الرئاسية) ، و نُص على أن كل منتخب يفقد مقعده عند استقالته من الحزب الذي انتخب على أساس الانتماء له، كما "تقرر أن أي حزب سياسي لا يشارك في الانتخابات البلدية لمرتين تسحب رخصته، والشيء نفسه بالنسبة للأحزاب التي شاركت مرتين ولم تحصل على 1% من الأصوات المعبر عنها في كل مرة" .


1. مراجعة المدونة الانتخابية وزيادة مقاعد الجمعية الوطنية وتعزيز حضور المرأة في الوظائف الانتخابية: بموجب هذه التعديلات غير عدد من المواد في قوانين المدونة الانتخابية؛ ومن ذلك زيادة عدد مقاعد الجمعية الوطنية، وزيادة حظوظ المرأة في المجالس الانتخابية( ). وذلك على النحو التالي:


 إلزام الحزب الذي يترشح في أربع دوائر لانتخابات الشيوخ بأن يختار سيدة لتمثيله في إحدى الدوائر الانتخابية( ).
 اعتماد نظام الأغلبية ذي الشوطين في الانتخابات البلدية بدل نظام التمثيل النسبي ذي الدورة الواحدة( ).
 زيادة مقاعد الجمعية الوطنية من 95 إلى 146 وتفصيل ذلك على النحو التالي( ):
- اللائحة الوطنية: 20 مقعدا، (بدلا من 14سابقا).
- اللائحة الخاصة بالنساء: 20 مقعدا، (جديدة).
- اللائحة الجهوية الخاصة بمدينة نواكشوط: 18 مقعدا، (بدل 11سابقا)
- زيادة عدد نواب بعض المقاطعات من خلال رفع نوابها من واحد إلى اثنين، أو من أثنين إلى ثلاثة، أومن ثلاثة إلى أربعة، (حسب كثافة السكان).


2. تحويل لجنة الانتخابات إلى لجنة دائمة: وتخويلها الصلاحيات اللازمة لتحضير وتنظيم جميع العمليات الانتخابية والإشراف عليها؛ بدء بمرحلة التصديق على الملف الانتخابي وإلى غاية الإعلان عن النتائج( ).


3. إعادة هيكلة المجلس الدستوري: حيث رفع عدد أعضائه من ستة (6) ـ يعين رئيس الجمهورية نصفهم ومن بينهم الرئيس الذي يعد صوته مرجحا، ويعين رئيس الجمعية الوطنية اثنين، ويعين رئيس مجلس الشيوخ واحدا ـ إلى تسعة (9) يعين رئيس الجمهورية أربعة منهم من بينهم الرئيس، ويعين رئيس الجمعية الوطنية ثلاثة منهم، ويعين رئيس مجلس الشيوخ اثنين.
ومن شأن هذا التعديل أن يحدث توازنا داخل المجلس يميل لصالح السلطة التشريعية كما يقول الدكتور ولد سيد أب ؛ حيث أصبح عدد الأعضاء المعينين من غرفتي البرلمان خمسة مقابل أربعة معينين من طرف رأس السلطة التنفيذية.


4. إعادة تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء: من التعديلات الدستورية التي انبثق عن الحوار إعادة تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء؛ حيث أصبح يتكون من "تشكيلتين إحداهما مختصة في القضاء الجالس، والأخرى مختصة في قضاة النيابة العامة"، وذلك بموجب المادة 89 (جديدة) من الدستور( ).

ثانيا. التعديلات المتعلقة بحقوق الإنسان وتعزيز اللحمة الوطنية:

وهذه التعديلات متعلقة تحديدا بالاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي للشعب الموريتاني، واعتبارِ اللغات الوطنية موروثا مشتركا يجب حفظه، وبتجريم الاسترقاق واعتبارِه جريمة ضد الإنسانية، وتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات. وهي على النحو التالي:


التنوع الثقافي: أضيفت إلى ديباجة الدستور فقرة جديدة (4) تعترف بالتنوع الثقافي والعرقي وهذا نصها: "إن الشعب الموريتاني الذي توحده عبر التاريخ قيم أخلاقية وروحية مشتركة وطموح إلى مصير واحد، يعترف ويعلن تنوعه الثقافي الذي هو أساس وحدته الوطنية ولحمته الاجتماعية، وما ينجر عنه من حق في تميز الثقافات الوطنية. وتشكل اللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد واللغات الوطنية الأخرى البولاريةوالسونكيةالولفية، كل في حد ذاته، موروثا وطنيا مشتركا لجميع الموريتانيين، يجب على الدولة باسم الجميع أن تحفظه وتطوره.


تصنيف الاسترقاق جريمة ضد الإنسانية: أضيفت مادة جديدة للدستور (المادة 13 جديدة) تقول: "لا يجوز إخضاع أي أحد للاسترقاق أو لأي نوع من أنواع تسخير الكائن البشري أو تعريضه للتعذيب أو للمعاملات الأخرى القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة. وتشكل هذه الممارسات جرائم ضد الإنسانية، ويعاقبها القانون بهذه الصفة".


المساواة بين المواطنين: أضيفت الفقرة التالية إلى المادة 19 من الدستور: الفقرة 2 (جديدة): "يتمتع المواطنون بنفس الحقوق ونفس الواجبات اتجاه الأمة، ويساهمون سوية في بناء الوطن ولهم الحق، وفقا لنفس الظروف، في التنمية المستدامة وفي بيئة متوازنة تحترم الصحة".

بين ما كان وما لم يكن.. من الموضوعي إلى الظرفي:
وبتقويمٍ أولي لهذه المنظومة نرى أنها استحدثت إضافات جيدة في "المدونة السياسية" إن صح التعبير، ولعل أهم الإضافات:
- تعزيز الوضع الدستوري لمقومات الوحدة الوطنية وثقافة حقوق الإنسان.
- تعزيز النسبية.
- ترسيخ الحزبية (منع الترشح المستقل، ومحاربة الترحال السياسي، وتمويل الأحزاب، وحظر الأحزاب التي لا تحقق نتائج معينة).
- زيادة حظوظ المرأة في الحياة السياسية.
- زيادة عدد مقاعد الجمعية الوطنية تبعا لزيادة السكان.
- تحويل المؤسسات الإعلامية إلى مؤسسات خدمة عمومية.
- تجريم الانقلابات العسكرية (على أن ما أضافه هذا المبدأ الدستوري يبقى محاطا بمسألتين تحدان من جدته: أولا أن "القانون الجنائي الموريتاني يعاقب جميع الأفعال التي تستهدف قلب نظام الحكم بالقوة"؛ وذلك بحسب المادة 83 ، ثانيا هو ما قد يفهم منه أنه تحصين دستوري للنظام الحالي خاصة بعد نصه على عدم قابليته للتطبيق بأثر رجعي، وبالنظر إلى أن الرئيس الحالي جاء أصلا بانقلاب عسكري).


لكن هذه التعديلات أغفلت بعض الإصلاحات التي كان ينبغي إضافتها؛ إما لأن الحاجة قائمة إليها لإرساء حكامة سياسية وإدارية مقبولة، وإما لأنها مطالب للطبقة السياسية ينبغي عدم إغفالها في حوار وسم بأنه وطني.


ومن هذه الإصلاحات:
- تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح رئيس الوزراء وإعطاء دور للبرلمان في تشكيل الحكومة.وما تم في هذا الأمر لا يعدو أن يكون "إلزام الحكومة خلال شهر من تعيينها أن تحصل على ثقة الجمعية الوطنية". والواقع يقول إن الرئيس الذي عين الوزير الأول لن يعجز عن تمكينه وحكومته من "ثقة" الجمعية في وضع كوضعنا يسيطر فيه الرئيس بالدستور و"بغير الدستور" على سلطات هائلة.


- إلغاء مجلس الشيوخ: ظل السؤال عن الجدوائية الواقعية والدستورية لمجلس الشيوخ في موريتانيا يتردد باستمرار؛ نظرا لتكلفته المالية وعدم وجود مبرر دستوري تاريخي أو إداري لوجوده. لكن الحوار الوطني لم يطرح هذا التساؤل أو طرحه ولم يخرج منه بضرورة إلغاء هذا المجلس؛ خاصة بعد الزيادة الكبيرة التي عرفها مجلس النواب (من 95-146).


- حياد الإدارة والجيش: رغم القوانين الموجودة مسبقا والتي استحدثت (منع مديري المؤسسات العمومية والإدارات الكبرى من ممارسة السياسة)؛ إلا أنها لم تلب الحاجة الواقعية لحياد البيروقراطية الإدارية وتقليم قدرتها على التأثير على خيارات منتسبيها، وكذلك إقناع المواطنين العاديين بحياد هذا الجهاز الذي يعبرون عنه "بالدولة"، وينطبق الأمر نفسه على الأجهزة العسكرية والأمنية.
على أنه أيضا تنبغي الإشارة إلى أن أهم ما عطل ميزات هذه الإصلاحات هو الطريقة والظروف التي أقرت فيها؛ حيث إن غياب الإجماع السياسي قلل من دورها في تخفيف الاحتقان العام، كما أن إجراء مراجعات دستورية وقانونية مهمة في غياب التوافق العام جعل من الأمر سببا في الشقاق أكثر مما ينبغي أن يكون ردما لهوة.


وعلى العموم تبقى القراءة السياسية لهذه الإصلاحات هي أنها خطوات تدريجية في الإصلاح تسد باب ما قبلها؛ إذ أنه لن تمكن العودة إليه، وتفتح بابا لتجاوزها؛ حيث إن الإصلاحات القادمة التي يتداعى لها السياسيون أو تفرض على الأنظمة لا بد أن تأتي بجديد على ما قبلها.

 

البحث

آخر الإصدارات

إعلان

المركز على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox

وحدات المركز

وحدات