ظـاهـرة الغلـو والتكفيـر (☀) |
لقد قامت شِرْعة الإسلام على جملة من المبادئ والمقاصد ، كان من أبرزها: السماحةُ واليسر، والرحمةُ والرفق، والعدل والحقُ ، والاستقامة والتوسط.. كما جاءت بالبراءة والرفض لكل ما يناقض هذه المقاصد والصفات السامية ؛ كالمشقة والعسر، والقسوةِ والعنف، والبغي والظلم، والغلو والتشدد.. (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ، (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ، (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور الرحيم) ، (إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ) ، (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) ، و(وقولوا للناس حسنا) . (لا تُشددوا على أنفسكم فيشدَّد عليكم) (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) ، (إن هذا الدين يسر) ، (إن منكم منفرين) ، (وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). ولا ريب أن ما صار يُحيل إليه مفهوم (الغلو أو التشدد أو التطرف أو التكفير أو العنف..) وما أشبه ذلك من الفاظ وعبارات متقاربة: هو ميل وازورار عن مقتضى هذه الكليات والمقاصد الراسخة ، وانحرافٌ عن جادّتها ومحجتِها الواضحة ، بل هو دوس على منابعها، وإبطال لمعانيها، ونقض لأصولها ومراميها..
وبالإجمال: فالغلو يناقض مقصود الشارعا لحكيم من إرادة الرحمة بالعباد، وتحصيلِ مصالحهم، ودفع المفاسد عنهم،ووضعِ الإصر عنهم، ومن رفع الحرج والتيسير عليهم.
وقد تطورت ظاهرة الغلو والتكفير اليوم إلى أن أصبحت منهجا وأسلوبا له أصوله ومنطقه لذي يستند إليه، وشُبَهُه التي ينخدع بها معتنقوه من شباب الأمة ، وصار يهدد الدين والرسالة ذاتَها في تشويه صورتها وهدمِ مقاصدها ، والأمةَ في أمنها وسلمِها واستقرارِها وتنميتِها.. وهكذا فقد أصبح الغلو يمثل تحديا حقيقيا للمجتمعات المعاصرة.
وترمي هذه الورقة إلى تسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة، (ظاهرة الغلو والتكفير المعاصر)، وتحليل أسبابها، وبيان علاجها ، بعد محاولة تدقيق مفهومها وبيان أبعادها، ورسمِ معالم وأبعادِ الرؤية المنهجية التي تحكم تفكير وأفعال أصحابها.
وذلك من خلال منهجية علمية تقوم على محورين رئيسيين، هما: المحور الأول: مفهوم الغلو والتكفير، والمفاهيم ذات الصلة بهما المحور الثاني: ظاهرة الغلو وأسبابُها، وطرقُ مواجهتها وعلاجِها
والله نسأل الهداية والسداد، والتوفيق والرشاد
المحور الأول: الغلو والتكفير، المفهوم والأحكام والمفاهيم ذات العلاقة
أولا. مفهومي الغلو والتكفير، والعلاقة الدلالية والموضوعية بينهما: 1.مفهوم الغلـو في الدين: الغلو لغة:هو مجاوزة الحد ؛ يقول ابن فارس: "الغين واللام والحرف المعتل: أصل يدل على ارتفاعٍ ومجاوزةِ قدر" ، يُقال: غلا في الأمر، أي تجاوز الحد فيه، ويُقال للشيء إذا ارتفع: غلا. ومنه: غَلَت القدر إذا فاضت، وغلا السعر إذا تجاوز حده الطبيعي. وفي المصباح المنير: "غلا في الدين غُلوا: تَصَلَّبَ وتَشَدَّدَ حتى جاوز الحد"([1]) . وهكذا يَتبينُ أن الغلو في سائر استعمالاته اللغوية يدل على "الارتفاع والزيادة ومجاوزةِ الأصل الطبيعي أو الحد المعتاد".
والغلو شرعاً هو:"التشدد والخروج عن حد الاعتدال في الدين اعتقاداً أو عملاً ، أو هما معاً"([2]). أو هو "مجاوزة الحد المشروع في أمر من الأمور، بأن يُزاد فيه أو يُنقص عن الحالة التي شُرع عليها"([3]). ويمكن أن يُقال: "هو التعمُّق والتشَدُّدُ في الاعتقاد والعملِ والمواقف". أو هو باختصار: "الزيادةُ ومجاوزة الحد الشرعي الواجب". فالغلو في الحقيقة أعلى مراتب الإفراط في الجملة ، ولا يدخل فيه طلبُ الكمال في العبادة إذا لم يُجاوِز الحدَّ، لأنه من الأمور المحمودة.
ومن التعريف الأول الذي سُقناه نلاحظ أن الغلو في الدين: كما قد يكون في الاعتقاد، يكون في العمل، وكما يكون فكريا، قد يكون سلوكيا ، أو هما معا . ومن التعريف الثاني نلاحظ أن الغلو كما قد يكون بمجاوزةَ الحد بالإفراط ، يكون بمجاوزته بالتفريط. والتوسطُ بينهما هو "الاعتدال" المطلوب، والمقامُ المحمود، و"الصراطُ المستقيم".
ولعله من الأوفقِ أن يُسمَّى الطرفُ المقابل للإفراط في أمر الدين، وهو (التفريط) ؛ أن يُسمَّى بـ"التجافي" أو "المجافاة" ، وأن يكون مفهوم الغلو قاصرا على طَرَف (الإفراط) ، مصدقا ومجاراةً لِألفاظِ بعض الأحاديث التي وردت بذلك([4]). وفي مستوى من مستوياته قد نُسمِّي التجافي أو التفريط بـ(التساهل)([5]).
والمعنى الجامع للإفراط والتفريط، أو الغلو والتساهل، هو في نظري "الانحراف" ، بمعنى الميلِ عن الصواب والصراط المستقيم إفراطا أو تفريطا ، وليس هو "الغلو" بمعنى مجاوزة الحد ، كما يرى الشيخ الصادق الغرياني في تعريفه السابق للغلو ، إذ الغلو في نظري لا يتناول طرَف "التفريط"، وإنما هو قاصر على طرَف "الإفراط" ؛ بل هو يخص الإفراط المتناهي في البعد والميل والانحراف عن الجادة؛ أي: الطرف الأقصى من الإفراط. والله أعلم([6]).
2.التكفير(مفهوم الكفر والتكفير): الكفر في اللغة:التغطيةُ والسَّتْر، وكل شيء غَطَّى شيئاً فقد كَفَرَه ، وسُمِّي الزارع كافراً لُغة: لأنه يغطي البذر . ويُطلَق الكفر على جحود النعمة، وهو ضد الشكر([7]).
والكفر شرعاً:كل اعتقاد أو قولٍ أو فعل حَكَمَ الشرع بأنه كُفر ، كجحد الربوبية، أو النبوة، أو جحدِ شيء مما ثبت في النصوص، أو عُلوم من الدين بالضرورة([8]). ومنه الكفر أو الشرك الأكبر، وهو الإعراضُ الكلي عن الدين ، والكفرُ الأصغر، وهو الإعراض الجزئي عن بعض الأحكام والتعاليم الدينية.
والملاحَظ أن عامة العلماء حين عرّفوا الكفر شرعاً خًصّوه بالكفر الأكبر، وهو الكفر المطلق، مع أنه كثيراً ما يطلَق - مقيَّداً - على الكفر الأصغر. ويُفهم من ذلك أنهم لا يرون الكفر الأصغر من الكفر المخرج من الملة، وصاحبه ليس كافرا بل هو باق على أصل الإسلام([9]).
والتكفيرمفاعلةٌ من الكفر، وهو "إخراج من كان يُحكَم له بالإسلام منه، والحكمُ عليه بالكفر". وإذا أطلق غالباً -كما في هذا البحث - يُقصَد به التكفير المذموم الذي لم يلتزم بالضوابط الشرعية لهذا الحكم والذي هو نتيجةٌ للغلو في الدين . وعلى هذا جرى اصطلاح العلماء والباحثين المعاصرين، وقد يوصف أصحابُه بـ(التكفيريين).
3.العلاقة بين مفهومي الغلو والتكفير: أصبح بين هذين المفهومين علاقة وطيدة في الاستعمال الدارج اليوم، وما ذلك إلا للعلاقة الواقعية والارتباط المشاهد بينهما رغم عدم وجود أي علاقة دلالية بينهما . والواقع أن "التكفير" بالمفهوم الذي أصبح يُحيل إليه في العصر الحالي: هو مظهر أو نتيجة من نتائج الغلو في الدين كما سنوضحه لاحقا، ولكنه مظهر أو نتيجة هي من أخطر النتائج المترتبة عليه ، فكان ذلك سببا داعيا للتعبير عن كل من المعنيين بمسمَّى الآخر، من باب التعبير عن المسبَّب بالسبب والعكس . وملاحظةً لِهذا الفَرق الدقيق بين الغلو والتكفير: وُجدت بحوث تَتَحَرّى الدقة في التعبير عن العلاقة بين هذين المصطلحين ، كبحث العلامة القرضاوي عن ظاهرة التكفير المعاصر الذي اختار له عنوان: (الغلو في التكفير).
ولهذا سيجري التعبير عن موضوع هذا البحث - في ما يلي منه - بالغلو وحده ، والاقتصارُ على استعمال معنى (التكفير) بوصفه مظهرا أو نتيجة من نتاج الغلو.
ثانيا. المفاهيم والألفاظ ذات الصلة بمفهوم الغلو: في نطاق التعبير عن المعاني التي يُحيل إليها مصطلحا التكفير والغلو: تَرِدُ عباراتٌ أخرى مشابهة، شاع استعمالها في العصر الحالي مقترنة بهما، أو مستقلة عمهما ، وهي: 1. التنطع: وأصله التعمق في الكلام ، مأخوذ من النَّطْع، وهو الغار الأعلى في الفم الذي يظهر عندما يتعمق الإنسان في الكلام ويتشدق به ، ثم استُعمل في كل تعمق، سواء كان في القول أو في الفعل([10]) .والتنطع هو ألصق المعني وأقربِها - من ناحية الاستعمال الشرعي - لِمفهوم الغلو، لِورد النصوص بهما.
2. التشدد: تدور حروف هذه الكلمة على القوة في الشيء والصلابة ، كما في معجم مقاييس اللغة. والمتشدد والشديد بمعنى واحد ، وشاده: غالبه وقاومه ، وفي الحديث (إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه)([11]).
ويشير مفهوم التشدد من المنظور الديني إلى التشديد على النفس بتكليفها من العبادة فوق طاقتها . ويمكن تعريفه بأنه: "سلوكٌ تعبدي يميل فيه المتشدد للأخذ بالأصعب أو الأحوط في ممارساته التعبدية". وكأنه بهذا يرى في ممارساته زيادة وزهداً عن ما يمارسه غيره، إلا أنه في نظرته لمن يخالفه لا يصل لما يصل إليه المُغالي أو المتطرف.
والتشدد: أحد صور الغلو والتطرف، أو هو - بتعبير أدق - درجة من درجاته. وهو بذلك أخص منه، لأن التشدد يتعلق بالعبادة العملية ، بخلاف الغلو فإنه يتعلق بالعبادات والعقائد معا.
3. التطرف: في اللغة: تفَعّل من الطرَف ، وهو حَدُّ الشيء وحَرْفُه ، أي: منتهاه وغايته ، ومنه قولهم: "تطرفت الشمس" إذا دنت للغروب . فالتطرف معناه الابتعاد من الاعتدال والسيرُ في الطريق الأقصى في العمل والسلوك . وهكذا فإن مَن تَجاوز حد الاعتدال وغَلَى: يصح لغة تسميته بـ"المتطرف". ولهذا جاء في المعجم الوسيط في معنى تَطَرّفَ: "تَجاوَزَ حد الاعتدال ولم يَتوَسّطْ"([12]).
والواقع أن التطرف سلوك اجتماعي عام ، أو قُلْ حالة أو نمط شخصي أو نفسي يتصف به شخص أو جماعة مّا، لِأسبابٍ وعوامل مختلفة . و"التطرف الديني" هو جزء أو نمط من هذا المسلك العام، الذي قد يكون اجتماعيا، أو سياسيا أو فكرا أو دينيا..
ومما عُرّف به التطرف بمفهومه العام:أنه: "المبالغة في التمسك بأعمال او الأفكار قد تكون دينية أو سياسية أو غيرَها ، تشعر القائم بها بامتلاك الحقيقة المطلقة ، وتخلق فجوة بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه. مما يؤدي إلى غربته عن ذاته وعن الجماعة، ويعوقه عن ممارسة التفاعلات المجتمعية التي تجعله فرداً منتجاً".
وبأنه: "أسلوب منغلق للتفكير يتسم بعدم القدرة على تقبّل الآراء والأفكار الأخرى أو التسامحِ معها. وصاحبُه يرى أنه صادق صدقاً مطلقا، ومصيب دائما، ولا مجال لمناقشته".
ومما عُرّف به التطرف الديني خصوصا:أنه: "الإغراق الشديد والمغالاة في فهم ظواهر النصوص الدينية، على غير علم بمقاصدها وسوء فهمها، مما يؤدي إلى التشدد والغلو الذي ينتهي بصاحبه إلى مخالفة المجتمع واعتزالِه وتهديدِ أمنه وسلمه واستقراره" . وأنه : "مجاوزة الحدِّ وبلوغُ الطَّرَف في أمر من الأمور المتصلة بالدين والتدين، إفراطا أو تفريطا، زيادة أو نقصا، والبعد عن التوسط والاعتدال"
ويعرِّفه الشيخ البوطي رحمه الله بأنه: "الابتعاد عن الوسط الذي هو العدل المقرَّرُ ميزانُه في كتاب الله وسنة رسوله، والانحيازُ إلى أحد طرفيه المتجه إلى تكلّف الشدّة، أو المتجه إلى قصد التساهل والتملّص من المسؤولية".
وعلى هذا: فالتطرف أعمُّ من الغلو، الذي لا يشمل طرفيْ الإفراط والتفريط ، وإنما هو قاصر على الطرف الأول ، على نحو ما سلف ؛ فكل غال متطرف ، وليس كل متطرف غالياً . فبين الكلمتين (التطرف والغلو) اتفاق في "المِصْداق" وإن كان بينهما اختلاف في المفهوم الذهني . ونظراً إلى أنّ "مِصداق" الكلمتين واحد، فإن النهي عن الغلو الواردَ في النصوص الشرعية مستلزم للنهي عن التطرف.
والذين يعتبرون (الغلو) يشمل الطرَفَين (بلوغ الحَدَّين في الإفراط والتفريط): يعتبرون الغلو كذلك أخصَّ من التطرف ، ولكن ليس من جهة شمولهما وعدمِ شمولهما لطرفي الإفراط والتفريط ، فهما من هذه الناحية سواء ، ولكن من جهة كثافة ودرجة "الانحراف"، باعتبار الغلو مقتصرا على الدرجة القصوى من التطرف والانحراف ، أي: مجاوزة الحد الطبيعي زيادة أو نقصا . فالغلو والتطرف يشتركان في الانحياز إلى حدّ طرفي الأمر، ولكن الغلو أخص من جهة الزيادة والمجاوزة والإمعان في البعد عن الوسط إلى الأطراف. فالغلو على هذا التفسير مقتصر على الحد الأقصى من التطرف.
4. العنف: العنف لغة: خِلاف الرفق ، والعنيف: الشديد. وهو مثلث العين (بالرفع والفتح والكسر). وحقيقة العنف: أنه (الشدة في قولٍ أو رأي أو فعل أو حال) . وهو يتولد إلى عنف عقَدي، وعنفٍ عملي، وعنف فكري في الرأي والفهم والتصَوّر، إذ العنف هو نتيجة من نتائج الغلو والتطرف.
ومما جاء في ذم العنف والشدة قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرْعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب".
5. الإرهاب: الإرهاب لغة مصدر مأخوذ من رَهِب يرهب رهَبا وإرهابا ، وهو الإخافة والتخويف. ذلك هو معناه في أصل اللغة العربية ، وإذا كان الوصول إلى المعنى اللغوي للكلمة من خلال المعاجم العربية ليس بالعسير، فإن تحديد المفهوم الاصطلاحي للإرهاب ليس بالشأن اليسير؛ ذلك أن هذا المفهوم هو مفهوم (وافد) من أدبيات أمم أخرى، وليس في الثقافة الإسلامية من مفاهيم تضاهي ما أصبح يحيل إليه هذا المفهوم - في العصر الحالي -من معاني سوى المفاهيم التي سلف بيانها ، وخاصة مفهومي: الغلو والعنف . والذين تَصَدَّوْا لتعرف الإرهاب وبيانِ مدلوله من الباحثين والعلماء المسلمين، ساروا فيه في اتجاهين مختلفين ؛ اتجاهٍ ينطلق من المعنى الشائع له، والذي -كما قلنا - مصدرُه الثقافة والأدبيات الغربية ، واتجاهٍ يحاول تأصيله انطلاقا من الثقافة الإسلامية استنادا إلى مدلوله اللغوي، وإلى بعض النصوص الشرعية التي ورد فيها هذا اللفظ.
وإلى الآن لا تزال ظلال المدلول الغربي لهذا المصطلح هي السائدة في الأوساط الإعلامية والثقافية في المجتمعات الإسلامية. وهذا المدلول أو المفهوم يحيل تقريبا إلى ما يحيل إليه مفاهيم: (الغلو والعنف والتشدد والتطرف) ، على نحو ما ذكرنا.
ونقتصر هنا من الناحية الاصطلاحية على التعريف الذي وضعه مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي لهذا المفهوم، حينما تصدى بجدارة لتعرفيه وبيانِ حكمه في بيان صادرٍ عن دورته السادسة عشرة، المنعقدة في شوال من عام 1423 بمكة المكرمة، حيث حدَّد الإرهابَ بتحديد سَبَقَ به جهات عالمية عديدة غالطت في معناه ودلالاتِه . وجاء في هذا البيان أن: "الإرهاب هو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول، بَغْياً على الإنسان في دينه، ودمه، وعقله، وماله، وعرضه. ويشمل صنوفَ التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق ، وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق.. وكلُّ فعل من أفعال العنف أو التهديد يقع تنفيذا لمشروع إجرامي فردي أو جماعي ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس، أو ترويعِهم بإيذائهم، أو تعريض حياتهم، أو حريتهم، أو أمنهم. ومن صنوفه: إلحاق الضرر بالبيئة، أو بأحد مرافق أو الأملاك العامة أو الخاصة، أو تعريضِ أحد الموارد الوطنية، أو الطبيعية للخطر".
وبالتأمل في هذه الألفاظ والمصطلحات: نلاحظ تقاربا بين لفظي الغلو والتطرف ، فهما تقريبا بمعنى واحد ، وأما الألفاظ الباقية فهي بمثابة أوصافٍ ومظاهر للغلو؛ فالغالي يتسم في أخذه للدين بالشدة ، وفي معاملة الآخرين بالعنف، وفي ممارسة للتدين وأفعالِ الدين: بالتنطع والتعمّق . وكل هذه الألفاظ - ما عدى التطرف - وردت في النصوص الشرعية بالمعاني تقربا التي يفيدها مدلُولها اللغوي الآنف ، كما سيتضح من العنوان الموالي.
وإذا أردنا أن نضيف إلى المصطلحات والألفاظ السابقة - التي اشتهر استعمالها اصطلاحا في هذا الموضوع - ما هو من جنسها في اللغة على وجه لاستقراء والحصر: أمكن أن نضيف العبارات الأربعة التالية التي هي تقريبا بمعنى (التشدد) ، وهي : التعنت، والتحمس، والتعصب، والتصلب . وبذلك تغدوا العبارات التي تطلق على التشدد والغلو في الدين تسعة ، هي: (التنطع، الغلو، التعمق، التكلف، التشدد، التعنت، التحمس، التعصب، والتصلب) . وأما (التكفير) فهو نتيجة من نتائج (الغلو) الذي يصح أن نَجعله العنوان العام للمعاني العشرة، (التسعة المذكورة + التكفير) . وأما الإرهاب: فهو أيضا نتيجة من نتائج التكفير والغلو بمفهومه الشامل ، فهو نتيجةٌ لِنتيجة . ولم نشأ أن نُدرجه ضمن المصطلحات العشر المذكورة ، إذ فيها غُنيةٌ عنه ؛ بالإضافة لِكونها أصيلةً في اللغة والثقافة الإسلامية، ويسهل تأصيلُها مباشرة من نصوص الشرع ، ومصطلح الإرهاب وافد ومستورَد، مهما كان له من حضور في الاستعمال السائد يفوق ويَطغى على حضور المصطلحات الأخرى التي -كما قلنا - بعضُها شرعي وردت به النصوص مباشرة ، وبقيتُها داخلة بطريق "المصداق" في ما هو منصوص عليه.
ثالثا. الغلو من خلال نصوص الكتاب والسنة وكلام العلماء: 1. من القرآن الكريـم: - (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) ، حيث تضمنت أمرا بلزوم الاستقامة (الوسط)، وتجنّبِ الغلو والمجافاة. - (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، فيها تحذير من "تعدي" الحدود، والأمرُ بلزومها. والحدودُ هي النِّهايات لكل ما يجوز من الأمور المشروعة ، وتعديها هو تجاوزها وعدم الوقوف عليها. - (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا)، فيها أمر صريح بالثبات على الأمر، ولزومِ الاستقامة (التوسطُ والاعتدالُ)، والاستمرارِ على الدين من غير تقصير ولا مغالاة تُحِيل هذا الدين من يسر إلى عسر، كما يقول سيد قطب. - (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) ، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ..)، والمقصود هنا خصوص النصارى ، والغلوُّ الديني فيهم -كما يقول العلماء - كثير ، ومنه جاءت معظم الانحرافات في الديانة النصرانية([13]). - (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) ، "أي: ومن وصفه أن دينه سهل سمح ميسر، لا إصر فيه، ولا أغلال، ولا مشقات ولا تكاليف ثقال" . كما يقول السعدي. 2. من الحديث الشريف: - عن بن عباس قال قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة العقبة وهو على راحلته: "هات القط لي"، فلَقَطتُ له حَصَيات هن حصى الخذف، فلما وضعتُهن في يده قال: "بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك مَنْ كان قبلَكم الغلوُّ في الدين"([14]). - عن الأحنف بنِ قيس، عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هَلَكَ المتنطِّعون". قالها ثلاثا. (رواه مسلم) . قال النووي: "أي: المتعمِّقون المُغالون المجاوِزُون الحدودَ في أفعالهم وأقوالهم"([15]). - عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تُشددوا على أنفسكم فيشدَّد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار (رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)»([16]). - عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلجة" . وفي لفظ: "والقصدَ القصدَ تبلغوا"([17]) . "والمعنى: لا يَتَعمّق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع وغُلِب"([18]) . "والتسديد العمل بالسداد وهو القصد والتوسط في العبادة، فلا يقصُر في ما أمر به ولا يتحمل ما لا يطيقه"([19]). - عن عبد الرحمن بن شبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به.."([20]). - وقال [: «عليكم هدياً قاصداً فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه»، أخرجه أحمد. - قال ابن الأثير: يشاد الدين: أي يقاومه ويكلف نفسه من العبادة فوق طاقته. - - عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". - عن ابن مسعود رضي الله هنه أن رجلا قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا ، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ، ثم قال: "إن منكم منفرين ، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة". (رواه البخاري). - عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا". (البخاري ومسلم). - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل اللهم اهدني وسددني ، واذكُرْ بالهدى هدايتَك الطريق، والسدادَ سدادَ السهم». (رواه مسلم). هذه باختصارأصرح وأصح ما اهتديت إليه من النصوص الواردة في الغلو وذمِّه ، وكلّ هذه الأحاديث تدلّ على أن الغلوّ خروج عن المنهج ومجاوزة للحدّ، وفعل ما لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. ولسنا بصدد إحصاء الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ وتذمّه دون تصريح به، فهي كثيرة جدًّا . أما نصوص التحذير من التكفير - الذي هو كما قلنا نتيجةٌ من نتائج الغلو وثمرةٌ من ثماره - فهي كثيرة ومعلومة، نَعرِضُ عنها خشية الإطالة. 3. كلام العلماء
5. ويقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: «الوسط في الدين ألا يغلو الإنسان فيه فيتجاوز ما حد الله عز وجل، ولا يقصر فيه فينقص عما حد الله عز وجل، الوسط في الدين أن يتمسك بسيرة النبي [، والغلو في الدين أن يتجاوزها والتقصير ألا يبلغها».
رابعا. كيف يَثبُتُ الدخولُ في الإسلام وكيف يتم الخروج منه؟ لِأنّ "التكفير" أخطرُ نتيجة من نتائج الغلو التي يترتب عليها شيوع الفتنة واستباحة أموال المسلمين ودمائهم: عقدنا هذا العنوان الخاص بمفهوم الإسلام ونقيضِه، وكيفيةِ الدخول فيه والخروجِ منه.
في بحث قَيِّم تضمنه كتاب (مراجعات الجماعة الليبية المقاتلة) والمعنون بـ(دراسات تصحيحية)، وَقَفَ كاتبوا "المراجعات" مع هذه المسألة الهامة التي تمثل مدخلا مهما لموضوع التكفير المعاصر. وخلاصةُ بحثهم ما يلي:
- شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدا رسول الله، أو ما يقوم مقامها كقوله "أسلمت" أو "أنا مسلم". - الدلالة: وهي كل قول أو عمل أو شعار اختص به المسلمون ، وتميزوا به عن غيرهم، كالصلاة، أو الآذان الذي به تتميز دار الإسلام عن دار الشرك ، أو اللباس الذي اختص به المسلمون، ونحو ذلك. - التبعية للأبوين المسلمين أو أحدِهما: فالأصل الإسلام في كل من ولد لأبوين أحدهما أو كلاهما مسلم، أو التبعية لدار الإسلام بالنسبة هول الحال. § لا يصح اشتراط شروط لم يأذن بها الله في قبول إسلام من أتى بإحدى الخصال المذكورة ، وإنَّ من الأخطاء الشائعة في هذا الباب والتي يترتب عليها أمور مخالفة للشرع هو أن يشترط الإنسان شروطًا أخرى لثبوت عقد الإسلام في الناس , كاشتراط تعلم أدلة المتكلمين، أو اشتراطِ العلم التفصيلي بمعاني التوحيد أو مقتضيات لا إله إلاَّ الله . وكأنْ يزعم بأنه لا يَحكم على إنسان ما بأنه مسلم حتى يتأكد من توفر شروط لا إله إلاَّ الله فيه , ويحتج بأنَّ الناس في العصور المتأخرة ينطقون بلا إله إلاَّ الله ولكن بغير الإتيان بشروطها، أو أنه لا يحكم على من يقيم في بلاد المسلمين بالإسلام بحجة أنَّ أحكام الديار قد تغيرت , وأنَّ الناس يَتبعون أحكام ديارهم، أو بحجة اختلاط المسلمين بغيرهم في تلك البلاد..
فهذه الأقوال كلها مجانبة للصواب قد حكم العلماء في القديم والحديث ببطلانها , كما لا يجوز التفتيش عن عقائد الناس وأحوالِهم ، بل لنا ظواهرهم والله يتولى السرائر.
§ إنَّ أمة الإسلام قد توارثت هذا الدين جيلا بعد جيل منذ عهد النبي ، فالقولُ بأنَّ (الأصل) فيها قد تغير هو قول باطل، وهو قول مخالف للحقائق التاريخية، فضلا عن الأدلة الشرعية . كما أ نَّ شروط لا إله إلاَّ الله, إنما يذكرها العلماء للإيمان الذي ينفع صاحبه في الآخرة، ولم يكلَّف المسلمون بأن يختبروا الناس فينظروا هل حققوا شروط لا إله إلاَّ الله أم لا , بل من فعل هذا فقد ابتدع في الدين بدعة عظيمة, فما كان النبي ولا صحابته يفعلون ذلك، بل كانوا يقبلون من الناس ظواهرهم ويكلون سرائرهم إلى الله تعالى.
§ إنَّ من يريد وضع قيودٍ على الأمور التي ذَكَرَها أهل العلم في ثبوت عقد الإسلام: فإنه يريد أن يُضيِّق أو يُحجِّر واسعًا ، ولو أراد الله عز وجلَّ من عباده أن يمتحنوا الناس في عقائدهم أو دينهم لجاءت الأوامر بذلك صريحة ولعلمنا هذا من سنة النبي , وكم من حقوقٍ للمسلمين سوف يفرِّط فيها هذا الإنسان , كرد السلام، وعيادةِ المريض، واتباع الجنائز وإجابة الدعوة ، فضلا عن دم بعض المسلمين وأعراضِهم وأموالهم.
§ تكمن أهمية معرفة الخصال التي تُثبت لصاحبها الإسلام في أنَّ معرفتها تحفظ المرء من الوقوع في إضاعة حقوق إخوانه المسلمين ، فيتهاون في أمر أموالهم وأعراضهم وقد يصل الأمر إلى استباحة دمائهم وهذه الحقوق قد بينها القرآن الكريم والرسول الأمين صلى الله عليه والسلم.
في كلمات دالة لخص الإمام حسن البنا مذهب أهل السنة في التكفير وضوابطِه، قائلا في الأصل العشرين من أصوله: "ولا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما برأي أو بمعصية، إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذّب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر".
إن إنزال الحكم على الناس بالتبديع أو التفسيق أو التكفير: من أخطر الأمور، ولهذا جاء النهي الصريح في الأحاديث الكثيرة الصحيحة عن التسرع فيه ، وعلى ضوء تلك النصوص وضع العلماء لهضوابط وقواعد تحكمه. ومن أهم هذه القواعد ما يلي:
- أن الحكم بالكفر من الأحكام الخطيرة والحساسة، ولا تكون إلا بتثبّت والبيّنات، وذلك من مهمة القاضي أو المفتي ويخضع المساطر وإجراءات الأحكام القضائية المعروفة، وليس من مهمة أحد من عامة الناس، فمهمة عامة المسلمين في ما بينهم هو التناصح والتآمر بالمعروف في ما بينهم على نحو ما ترسيه قاعدة: (دعاة لا قضاة).
- الكفر في لغة القرآن والسنة كُفْران : كفر أكبر، وكفر أصغر. فالأوليُخرج الإنسان من الملة بالنسبة لأحكام الدنيا ، ويوجب له الخلود بالنسبة لأحكام الآخرة . والثانييوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار، ولا يُخرج صاحبَه من الإسلام . والكفر بهذا المعنى الأخير يشمل سائر المعاصي التي يخالَف بها أمرُ الله ، وفيه وردت أحاديث كثيرة، من نحو (من حلف بغير الله فقد كفر) ، (سِباب المسلم فسوق وقتالُه كفر).
- الإيمان قد يشارك شعبة أو أكثر من شعب الكفر أو الجاهلية أو النفاق، دون أن يكون ذلك ناقضا له بالمرة، كما نَطَقَت بذلك نصوص مشهورة.
- وجوب التفرقة بين النوع والشخص في قضية التكفير. ومعناه: أن نقول بأن القول الفلاني أو المذهبَ الفلاني كفر، أو من قال كذا أو دعى إلى كذا فهو كافر ، فهذا ونحوه حكم على النوع ؛ فإذا تعلق الأمر بشخص معين يَنتسِب إلى مذهب معين أو يُنسب إليه قول أو فعل معين: وجب التوقف والتحقّق من حقيقة موقفه، حتى تقوم عليه الحجة وينتفي التأويل والشبهة . "ومذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والمعيَّن"، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة المردانية . ومُستند هذا: ما حدث لبعض المسلمين في عهده صلى الله عليه وسلم من كفريات مُخرجة من الملة في ظاهرها ، ولم يُكفّر أعيانَ فاعليها ، لعارض الجهل، أو الإكراه، أو التأول، أو نحو ذلك.
- حين نستعرض أقوال السلف وآثارهم وأفعالِهم وأحوالهم من لدن الصحابة: نجد بيانهم للكفر وتحذيرَهم منه في العقائد والأحكام وغيرِها كثيراً جداً ، لكنَّ تكفيرهم للأعيان من الأفراد والفرق والهيئات نادر جداً.
ومن هذا نستنتج مصادر الأخطاء في الحكم بالكفر (التكفير) التي نستطيع أن نعيد خلاصتَها على النحو التالي: - الاستدلالبماوردفيالكفارالأصليينعلىبعضالمسلمين. - عدمُالتفريقبينالكفرالأصغروالكفرالأكبر. - عدمالتفريقبينكفرالنوعوكفرالعين. - عدمالتبَيُّنبالطرقالشرعيةفيإثباتارتكابالإنسانلِفعلمعين. - الجهلبشروطإنزالالأحكاموموانعها ،وبالتاليإنزالُحكمالتكفيرأوالتبديعأو التفسيقدونالنظرفيتلكالشروطوالموانع. - الخلطبينالوظائفالشرعية ،وعدمُالتفريقبينمهمةالدعاةإلىاللهسبحانهوتعالى وبينمهمةالقضاةوالعلماء.
خامسا. الخلفيات والجذور التاريخية للغلو في الدين: ترجع بذور الغلو في الدين إلى رؤوس الثوار على عثمان رضي الله عنه، وبعض العجم والأعراب الذين لم يتفقهوا في الدين، وبعض العُبّاد الجهلة الأوائل، وأصحاب الأهواء، وأهل النفاق والزندقة ، وكان من ضحيتهم بعض الغيورين والمندفعين إلى التدين بعاطفتهم بلا حكمة، ومن هذه الأصناف تكونت فرق الخوارج الأولى.
وأصول الغلو باقية، وتنبعث كلما توافرت أسبابها في أي زمان وأي مكان وبيئة، لا سيما مع الأحداث الجسام والفتن، فنزعة الغلو والتشدد التي قد تنشأ عنها ظواهر التكفير والعنف قد تصاحب كل نهضة أو دعوة وتشذ عنها.
فرق ومذاهب متطرفة: عرف تاريخ المسلمين خروجاً على وسطية الإسلام ودخولاً في التطرف، تجسد أحينا في شكل فرق وجماعات عنف، بعد ما كان مجرد أفكار وآراء متطرفة . ونذكر من ذلك:
ونلاحظ:أن كل هذه المناحي من التطرف انطلقت من أسباب وظروف بعضها سياسي وبعضها اجتماعي ، وليس هنا محل بسطها ومناقشتها.
وفي العصر الحالي تعود البدايات الأولى لنشوء الغلو إلى...
المحور الثاني: مظاهر الغلو وأسبابُه ، وطرقُ مواجهته وعلاجِه
أولا. مجالات ومظاهر الغلـو: - يشمل مجال الدعوة من خلال ظاهرة التنفير والتعسير وخرق قواعد الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشروطِه. - ويشمل مجال الفتيا من خلال ظاهرة التشدد والتحريم، والتمسك بظاهر النصوص بما يعارض مقاصدها والتعصب للرأي وإنكار الاختلاف. - مسألة التقليد والتحرر منه والثورة على التمذهب.. (الغلو في ذم التقليد ووجوب الاستقلال في فهم النصوص والتعاطي معها). - مجال الأحكام الفقهية، من خلال التوسع في التحريم وكراهية التحليل مع أنه الأصل، والعمل بالعزائم وإنكار الرخص، وقلب القاعدة باعتماد الحظر أصلا والإباحة استثناء. - كما يشمل الغلو مجال العقيدة، وهو أخطرها، لأنه ينتج ظاهرة التكفير وإخراجَ المخالفين من دائرة الإسلام، وما يترتب عن ذلك من استحلال الدماء والأعراض والأموال والحقوق (مسألة الكفر والتكفير وشروطه وضوابطه). - ويتبع ذلك مسألة الإعراض عن تطبيق الإسلام من قبل المجتمع والحكم (مسألة الحاكمية) وتكفيره - قضية الجهاد ومفهومه وتحقيق مناطه وتطبيقه - الموقف السلبي دائما من غير المسلمين والعلاقةِ بهم
ثانيا. من صفات وخصائص وسمات المُغالين ومنهجِهم: - المغالاة في القيام بالواجبات الدينية والتشديد على النفس ومحاسبتِها على النوافل وكأنها فرائض. - الحكم على المخالف في الرأي بأحكام قد تصل للكفر والإلحاد. (البغي على المخالف). - الاهتمام بالجزئيات على حساب المقاصد والكليات. - سوء الظن بالآخرين والغلظة عليهم والبحث عن زلاتهم والنظر إليهم نظرة دونية. - الدعوة إلى العنف والخروج على المسلين وقتل الأبرياء وإثارة الفتن. - الإعراض عن العلماء , والوقوع في أعراضهم - ضعف التبيّن والتثّبت في كثير من الأحوال التي حكموا بسببها بالكفر على الدولة أو الأفراد. - التأويل المتكلف، وحمل أفعال من يحكمون عليهم على أسوأ المحامل. - الجهل بقواعد الاستدلال، والتغافل عن إعمال القواعد الضرورية في الاستدلال. - الاندفاع العاطفي غير المتزن، والغيرة غير المنضبطة بضوابط الشرع. - الانغلاق وعدم الاستفادة من الحوادث والتجارب وأخذ الدروس والعبر التاريخية - التعالم والغرور، والتعالي على العلماء وعلى الناس، واحتقار الآخرين وآرائهم. وهو مانتج هنه: الابتعاد عن العلماء وجفوتهم، وترك التلقي عنهم، وعدم الاقتداء بهم - قلة الفقه في الدين، أو أخذ العلم عن غير أهله أو على غير نهج سليم، أو تلقيه عن غير أهلية ولا جدارة. - قلة الصبر، وضعف الحكمة.
- إن عقلية البعد الواحد يصعب عليها أن تحاور في هدوء، أو تسمع النقد المقابل دون تشنج؛
لأنها اعتادت أن تنظر لنفسها نظرة اعتدال وكمال واحتكار للحق والصواب، وكل من خالفها لن يعدو أن يكون ناقص
فقه أو دين.
ثانيا. من آثـر الغلو والتطرف: للغلو والتشدد آثاراً سلبية في شتى المجالات ، ومن ذلك: - الانحراف عن الهدى السليم والمحجة القويمة وتفريق كلمة المسلمين. - انتشار الآراء والأفهام السطحية والخاطئة والمتناقضة أحيانا في الدين وغياب الوسطية - تشويه صورة الإسلام والمسلمين والتنفير منه. - تأجيج الفتنة وإضعاف الدولة وتدمير السلم والأمان والاقتصاد - ضياع وتعطيل الطاقات البشرية الشبابية، وتحويلها من طاقات إيجابية ، إلى طاقات سلبية ضارة. - الانقطاع عن العمل وتضييع الحقوق.
ثالثا. أسباب الغلـو والتشدد: خاض الباحثون والسياسيون والعلماء المعاصرون في تحليل أسباب الغلو والتطرف المعاصر ، وانتهوا إلى أفكار ونتائج وآراء كثيرة ومتشعبة . وقد دأب الباحثون في هذا المجال على تقسيم هذه الأسباب إلى أسباب سياسية وأخرى اجتماعية، وأخرى تربوية.. الخ . ولكننا رئينا في هذا التقسيم نوعا من المحاكاة والتكلف والإطناب غير الدقيق أحيانا ، وفضلنا في المقابل أن نُرجع أسباب التطرف ولغلو المعاصر إلى زمرتين اثنتين، هي كما يلي:
أولا. الأسباب الراجعة إلى التأثُّر الشديد بواقع المسلمين المنحرف، وحجمِ التآمر والكيد لهم: 1) إعراض أكثر المسلمين عن دينهم إعراضاً لم يحدث مثله في تاريخ الإسلام، وشيوعُ المنكرات الكبيرة في المجتمعات المسلمة، من السفور والفجور وشرب الخمر.. بل والإلحاد الصريح والكفر البواح أحيانا. 2) تساهل العلماء في مواجهة وإنكار هذه المنكرات وإزالتها ، ناهيك عن الحكام الذين يشجعها بعضهم. 3) إعراض الحكام عن تطبيق الشريعة في البلاد الإسلامية، وقوةُ التباين والفجوة بين واقع المسلمين وماضيهم 4) شيوع الظلم بشتى صوره وأشكاله، وغيابُ العدل، والاضطهاد السياسي والظلم السلطاني واختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم. 5) فقد الثقة بالعلماء عموما والعلماء الرسميين خصوصا الذين هم من يتصدر المشهد. 6) النقمة على الواقع وأهله ؛ بسبب سوء الأوضاع الدينية والاقتصادية والسياسية في كثير من البلاد الإسلامية ، وما يترتب على ذلك من ردود الأفعال التي لا تقدر عواقب الأمور. 7) غياب الشورى ، وتوالي والهزائم السياسية والعسكرية ، والتآمر على الدين الإسلامي عالمياً. 8) تحكم الكافرين: من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين في مصالح المسلمين وبلادهم، مما أدى إلى تذمر المسلمين، وما ينتج عن ذلك من ردود الأفعال والسخط والعنف. 9) محاربة التمسك بالدين والعمل بالسنن، والتضييق على الصالحي ن، وبالمقابل التمكين لأهل الفسق والفجور والإلحاد ، مما يعد أعظم استفزاز لذوي الغيرة والاستقامة. 10) وكل هذه الأمور تثير غيرة الشباب المتدين، وتدفع بهم إلى التصدي لهذه الانحرافات بلا علم ولا حكمة.
ثانيا. أسباب عائدة إلى الغلاة أنفسِهم وظروفهم الذاتية: 11) شيوع الجهل بالدين في أو ساط الشباب نظرا لحداثة السن من جهة، ولِغياب المدارس والمحاضن التي تدرس الإسلام بتعمق كاف ، مما نجم عنه "جهل مركب" (جهل بكتاب والسنة، وجهل بمنهج السلف، وجهل بمقاصد الشريعة، وجهل بالسنن الربانية، وجهل بالأحكام ومراتب الأعمال، وجهل بالتاريخ، وشيوع التأويل والتحريف، والاستعجال، والتعصب). وجِماع هذا أن أصحاب الغلو والتكفير يَجمعون بين الجهل والهوى والظلم، وقلةِ البصيرة في قواعد الشرع وعواقب الأمور.
12) الخلل في مناهج بعض الدعوات المعاصرة: فأغلبها تعتمد في مناهجها على الشحن العاطفي، وتربي أتباعها على أمور عاطفية غير منضبطة بضوابط الشرع وقواعد الدين، أو غايات دنيوية: سياسية واقتصادية ونحوها. وهي في الوقت نفسه قد تقصِّر في أعظم الواجبات، فتنسى الغايات الكبرى في الدعوة، من غرس العقيدة السليمة، والفقه في دين الله تعالى، والحرص على الجماعة وجمع الكلمة على العلماء وأهل الحل والعقد، وتحقيق الأمن، والتجرد من الهوى والعصبية، وفقه التعامل مع العلماء والولاة والعامة، ومع المخالفين، وفق قواعد الشرع، والتورع عن القول على الله بغير علم، وعن الخوض في أعراض الآخرين.
13) تصدُّر حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام للدعوة وتوجيهِ الشباب بلا علم ولا فقه، فاتُّخِذ بعضُهم رؤساءَ جهالاً، فأفتوا بغير علم، وحكموا في الأمور بلا فقه، وواجهوا الأحداث الجسام بلا تجربة ولا رأي ولا رجوع إلى أهل العلم والفقه والتجربة والرأي.
رابعا. مقاربة عـلاج ومقاومةِ الغلو: إن علاج ظاهرة التطرّف في المجتمعات الإسلامية تشكل أولوية لدى صنّاع القرار، وذلك للآثار الخطيرة الناجمة عنها على مستوى الفرد أو الدولة، ولا خلاف في أهمية الاحتياطات الأمنية لتضييق انتشار هذا الفكر والحدّ من خطره، إلا أن عجلة التنمية ودولاب النهضة لا ينبغي أن يتوقف إلى حين القضاء عليها، وإشاعة فقه النهضة والمدنية يعتبر من الضروريات في المرحلة التي نعيشها هذه الأيام، مما يجعل الكل يسعى للبناء وينظر للمستقبل، ويتنافس مع الآخر في مدارج الحضارة والتقدم.
إن إشاعة فقه النهضة والدخول في خيارات التنمية هو ما ينبغي إثارته في كل أطروحاتنا حول التطرف وأزمته الراهنة، وأعتقد أن هذا هو ميدان العمل والحرث والإنتاج لنخبنا المثقفة، بدلاً من التمحور في أبراج التنظير العاجيّة, وتسويق الحلول الآنية. فهل نعتبر فقه النهضة مشروعنا القادم للخروج من أزمة التطرّف وإشكالاتها المتعددة؟
(من مقال منشور على الإنترنت: فقه النهضة .. هل يُعتبر خيار المرحلة القادمة لعلاج التطرّف؟ لـ د.مسفر بن علي القحطاني، رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية ، بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن)
إذا توافرت الأسباب السابقة ونحوها: مهَّد هذا لِظهور الغلو والتنطع ، ثم التكفير واستحلال الدماء والفساد في الأرض ، وبخاصة إذا انضاف إلى هذه الأسباب تقصير الولاة، وغفلة العلماء عن معالجة هذه الأسباب بما يناسبها . ومما يناسبها من علاج من وجهة نظرنا ما يلي:
1) أهمية الوضوح والشفافية والصراحة في طرح قضايا التكفير والعنف والغلو وأسبابها، والاعتراف بوجودها وآثارها. 2) عدم الخلط بين القضايا التي لها أصول شرعية وبين ما فيه مخالفة للشرع، فالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء ونحوها، كلها أصول عقدية وثوابت شرعية معتبرة شرعاً بشروطها، فيجب بيان الخطأ في تفسيرها وفهمها، لا إنكارها والتشكيك فيها، وعدم الخلط بينها وبين التكفير المذموم والعنف والإرهاب. 3) كشف مواطن الإشكال واللبس والغموض في القضايا الحساسة، فتُحرَّر جميع المسائل المشكلة شرعاً، وتربطها بأصولها وقواعدها وأدلتها وفتاوى العلماء. 4) استقراء شبهات الغلاة ودعاويهم وتلبيساتهم، أو الأمور الملتبسة عليهم، وتتبع مقالاتهم ومؤلفاتهم وسائر مزاعمهم والتعرف على أساليب قادتهم ومرجعياتهم، ثم الرد عليهم بالحجة والدليل والبرهان الشرعي والعقلي، والأسلوب العلمي الرزين، والحوار الجاد. 5) مشكلة كهذه وليدة أسباب عديدة بعضها علمي وبعضها ديني وبعضها ضغوط من واقع به فساد بين، لذا لا بد أن تتعاون كل جهات التأثير التربوية لإصلاح هذا الخلل - التعليم - الإعلام - علماء الدين - ورجال السياسة.. 6) فتح قنوات حوار وتواصل مع الشباب والمراهقين من قبل العلماء والدعاة بروح الأبوة الحانية والأخوة الراضية للتعبير عما يجيش في عقولهم. وتفنيد شبهات الغلو والتطرف بأسلوب شرعي وروح فكرية على نحو وسطي معتدل. 7) تأصيل فقه الأزمات والنوازل وإيجاد إجابات وحلول وسطية لإشكاليات الواقع ومستجداته. 8) تضمين المقررات التعليمية بالمادة الدينية الكافية لتكوين الشخصية المسلمة السوية المعتدلة. 9) إشاعة جو الحرية وروح النصيحة حتى لا يجد الشباب طرائق أخرى للتعبير عن النقد والمعارضة. 10) معالجة صور الانحراف الأخلاقي المستفز بتوازن وموضوعية حتى لا يكون حجة لغرس بذور الغلو والتطرف. 11) تطوير الخطاب الدعوي الرسمي من خلال تناوله لإشكاليات الواقع وقضايا العصر بوسطية واعتدال وعدم تجاهل الحديث عنها. 12) إيجاد مرجعية صحيحة ومقبولة ومتوازنة تنال ثقة الشباب. 13) التربية الإيمانية الصحيحة على منهج القرآن وبنبراس من تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته وأصحابه على سبيل الخصوص. 14) نشر دراسات وبحوث تتناول شبهات فكر الغلو والتطرف والرد عليها وتوفيرها للشباب.
(☀) ورقة شارك بها مدير المركز د.محمد محمود الصديق في مؤتمر "الإرهاب وضرره على التنمية والاستقرار" الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي بالعاصمة السنغالية دكار في مارس الماضي [1])يُراجع معجم مقاييس اللغة ، ولسان العرب (غلا)، ومختار الصحاح (غلا). [2])الدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل: ظاهرة الغلو والتكفير: الأصول، والأسباب، والعلاج ، ص: 7. [3])الصادق الغرياني: الغلو في الدين ، ص: 11 [4])مثل الحديث الذي رواه أحمدعن عبد الرحمن بن شبل: "اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به..". [5])ومما يؤيده هذا: أن الغلو والتساهل صارا يُستعملان معنيين متقابلين في أدبيات الاتجاه الإسلامي المعاصر (الصحوة الإسلامية) . وفي رصد ظاهرتيْهما، أَلَّف الشيخ القرضاوي كتابَه الشهير: (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف). [6]) يرى البعض أن مصطلح (التطرّف) يشمل الطرفين (الإفراط والتفريط) ، كما سنفصله قريبا. [7])لسان العرب ومختار الصحاح وابن فارس ، مادة (كَفَر). [8])الإرشاد إلى معرفة الأحكام للسعدي ، ص: 203. [9])الدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل: ظاهرة الغلو والتكفير [10]) ينظر ابن الأثير: النهاية في عريب الحديث (5/74)، ولسان العرب لابن منظور، مادة (نطع) [11]) أساس البلاغة للزمخشري ، مادة (شدد) . وانظر تخريج الحديث في ما يلي. [12])مادة (طرَف)، وراجع: كتاب: الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة لعبدالرحمن بن معلا اللويحق ، ص: 60 [13])ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم (2/289) ، وراجع: في ظلال القرآن (2/696) |